27‏/2‏/2011

دراسة أثرية ومعمارية لقصر تيوت بالنعامة

ينتمي قصر* تيوت إلى مجموعة القصور أو القصبات المحاذية للجزء الغربي من الأطلس الصحراوي في الجزائر, وتعرف الجبال المحاذية لها بجبال القصور.تمتد هذه القصور في الجزائر من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وهي موازية لاتجاه السلسلة الأطلسية، تقع هذه القصور جنوب الهضاب العليا الغربية في الجزائر وشمال الصحراء الجزائرية، وتضم هذه القصور:قصر بني ونيف ومغرار التحتاني الذي يعد معقل ثورة الشيخ بوعمامة سنة1881م-1908م، وكان لهذه الثورة بعد وطني وقومي ومغرار الفوقاني، وعين صيفصيفة وعين الصفراء وتيوت وعسلة والشلالة الظهرانية والقبلية وأربا الفوقاني والتحتاني، وقد لعب هذا القصر دورا سياسيا ومذهبيا في العهد الفاطمي في الجزائر، وسأخصص لقصر مغرار التحتاني وأربا مقالات خاصة في الأعداد القادمة، والأبيض سيدي الشيخ الذي كان له دورا في ثورة أولاد سيدي الشيخ سنة1864م، وقصر سيدي الحاج بن عامر وكريكدة ومشرية كسال والغاسول وبريزينة وستين والعويدان وصفيصفة وبوعلام وسيدي أحمد بلعباس والمايعة وخلاف وسيدي تيفور وسيدي سليمان(1).تأسست هذه القصور بسبب وجود منابع المياه والأودية، ولولاها لما وجدت(2)، وكذلك نتيجة لظروف سياسية وإقتصادية وثقافية، بحيث تدل مظاهرها المعمارية على جملة من الأفكار التي اعتمدت على الصدق الثقافي الذي ترجم إلى استقرار وتاريخ ونمط حياة منذ فترة قديمة، لقد تعرض ابن خلدون إلى ذكر هذه القصور*.إن قصر تيوت هو شكل من أشكال العمارة*، وتعرف هذه القصور عادة بالواحات*وقد تعرضت المصادر العربية القديمة إلى ذكر هذه الواحات بأنها تمتد من بلاد مصر والإسكندرية وصعيد مصر والمغرب، وأرض الأحباش من النوبة وغيرهم، وأن الأخبار عنها مجهولة وكذلك عن كيفية العمران بها والخواص في أرضها، ووصفت بأنها أرضية شبية وعيون حامضة(3).ويبدو من مصادر الضباط الفرنسيين أن واحة تيوت من أروع الواحات في منطقة جبال القصور.
فقد ذكر رينيه(Reynier) بقوله"...بعد أن تغادر قصر عين الصفراء ورماله، ويقطع المسافر عشرات الكيلومترات في اتجاه الشرق، تصادفك فجأة بعض أشجار النخيل، وعندما تقترب يتضح المنظر أكثر، وعند وصولك إلى قصر تيوت، يظهر التناقض واضحا ورائعا في نفس الوقت بين بساتين النخيل الخضراء واللون الأحمر للصخور والأرض واللون الأبيض للقباب والنباتات الوفيرة في وسط سهل رطب يمتد في اتجاه الشمال الشرقي، ولكن القصر يبدو سيئا عندما تقترب منه بًني من أعلى إلى أسفل..."(4).بينما أشار دي فولك(De Foulques)الذي قاد الطابور الفرنسي في اتجاه القصور أنه عندما وصل الطابور إلى قصر تيوت في 09/04/1868م على الساعة واحدا زوالا، لاحظ دي فولك أن سهل تيوت كثير الانجراف، وبعد أن تجاوز وادي تيوت، توقف عند مخيم رائع به ماء يسيل، وتحيط به صخور معزولة، في شكل أكثر غرابة، ويستطرد قائلا أن قصر تيوت في حالة سيئة، ولكنه يتميز بزراعة كثيفة، وعلى حافة الواحة لاحظ صخورا منقوشة مثيرة وغريبة تمثل صور رجال ونساء وصيادي النعامة والأسود وحيوانات ذات قرون وفيلة وكلها رسمت بخط إلى حدما كبير(5).تتوسط واحة قصر تيوت واحات جبال القصور،بحيث يحدها من الشرق واحة عسلة ومن الغرب واحة عين الصفراء،ومن الجنوب واحة مغرار التحتاني والفوقاني،بالإضافة على موقعها الاستراتيجي بالنسبة لقصور الأطلس الصحراوي الغربي،فإن طابعها العمراني والمعماري المميز هو الذي دفع بالباحثين الفرنسيين إلى تصنيفها على أساس أنها من الواحات الرائعة في المنطقة،وقد وصفها أحد الضباط الفرنسيين بأنها واسعة وغنية وخصبة،وأفضل من الواحات التي زارها،وهي محصورة من كل الجهات بهضاب صغيرة وتلال ذات تربة حمراء أو رملية حجرية،وعلى حافة القصر أبراج مبنية من التربة(6).إن كلمة هي في الأصل بربرية زناتية، مشتقة من كلمة تيط أو تيطاوين ومعناها العيون أو المنطقة الغنية بمنابع المياه(7).وكما هو شائع عند سكان القصور والواحات فإن أية كلمة تبدأ بحرف التاء في اللهجة البربرية الزناتية معناها أن المنطقة غنية بالماء، وحسب الأبحاث الهيدروجيولوجية الأخيرة توصلت إلى أن منطقة تيوت تعد خزانا للمياه الجوفية(
1/قصر تيوت دراسة تاريخية وأثرية:
1-1 تيوت ماقبل التاريخ:عندما وصلت القوات الفرنسية الاستعمارية التي كان يقودها الجنرال كافيناك(cavignac) إلى قصر تيوت في 24/04/1847م في نهمة استطلاعية، عثر جاكو فليكس على رسومات صخرية، واعتقد أنه الأول الذي اكتشفها، وأعلن أن تيوت تعد المحطة الأولى للرسومات الصخرية أو الصخور المنقوشة في منطقة الأطلس الصحراوي، ولكن في الواقع أن المكتشف الأول لهذه الصخور المنقوشة هم سكان القصر بدليل أنهم أطلقوا عليها اسم الحجرة المكتوبة، ولكن ما كان ينقصهم هو تفسير هذه الرسومات، وتحديد تاريخها وأسباب وجودها.توجد الرسومات الصخرية بمنطقة تيوت على صخرة مساحتها 60م2 (20×3)،تقع على هضبة حجرية رملية ذات لون أحمر شمال القصر،وبعضها يقع على ضفة وادي تيوت،ويمكن للمرء مشاهدتها دون عناء أو جهد،فهي بارزة،وقد جاء في قول محمد الطاهر العدواني أن الرسومات الصخرية المنتشرة عبر الجبال والشعاب ومرتفعات الصحراء الكبرى الجزائرية قد عرفت محاولات عديدة لقراءتها،وتقديم تفسيرات تاريخية وحضارية لها من طرف العلماء الفرنسيين الذين اهتموا بها،ولا يمكن القول أنهم اكتشفوها،كما ينسبون هم ذلك إلى أنفسهم ،حيث أن من المعلوم أن مكتشفيها الحقيقيين هم سكان المنطقة الذين أرشدوهم إليها(9).وقد شرع الباحثون الأثريون الفرنسيون في دراستها، وتوصلوا إلى نتائج تمثلت في أن تاريخ هذه الرسومات الصخرية بقصر تيوت تعود إلى العصر الحجري الحديث، وهي من نوع قفصي وهراني وهي لا تتجاوز الألف الثالثة قبل الميلاد(10).ويبدو أن ظاهرة الرسومات الصخرية ليست مقتصرة على قصر تيوت وإنما توجد في منطقة الأطلس الصحراوي بل تمتد إلى المغرب الأقصى،وإلى غاية مصر بل تجاوزت شبه الجزيرة العربية، مما يبين أن الحضارة في تلك الفترة كانت واحدة، ويؤكد العلماء والباحثون الأثريون هذه الوحدة الحضارية بين مختلف مناطق العالم العربي، وذكر في هذا الشأن مونت غومري وات"...

هذا ولدينا اعتقاد بأن الظاهرة الفنية قد عمت في ذلك العصر عموم الصحراء الإفريقية والعربية على أرض الجزيرة، وقد تم اكتشاف العديد من هذه الرسومات منتشرة من منطقة الصفا جنوب دمشق، ومن شبه الجزيرة العربية مما يساعد على تأكيد الوحدة الحضارية لهذه المنطقة..."(11).ويبدو أن هناك تشابه كبير في مضامين وأشكال وتقنيات الرسومات الصخرية في الصحراء الجزائرية وبين الرسومات الصخرية جنوب مصر من جهة، وبين الرسومات الصخرية في عموم الصحراء الكبرى من شواطىء البحر الأحمر إلى شواطىء المحيط الأطلسي(12).والغالب على الظن أن أهالي قصر تيوت القدماء كانوا على اتصال مع شعوب المنطقة الممتدة من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، إلى الهجرة إلى وادي النيل ودلتاه.ويؤكد هذا القول محمد الطاهر العدواني بقوله:أن كل مانعرفه أن الأقوام الحجرية القديمة قبل العاترية وهم أقوام شمال إفريقية الصحراوية ومن ضممنها أقوام القفصية والوهرانية قد تجمعت منذ البداية للعيش على ضفاف وادي النيل،وكان لهذا التجمع أسبابه المناخية أحيانا يتزايد الجفاف بالمنطقة،إن اختيار هذه الأقوام لوادي النيل ودلتاه كنقطة تجمع وتمركز يدخل فيه إعتبار الجو الدافىء والمناخ المعتدل طول السنة كعنصر أساسي بالمقارنة مع أجواء ومناخات المناطق الأخرى مثل مناطق جبال الأطلس،ذلك أن منطقة وادي النيل ودلتاه منطقة ذات مناخ شبه صحراوي مثل الأجواء والمناخات التي تعود عيها تلك الأقوام الصحراوية(13).ومن ثمة يمكن القول أن الرسومات الصخرية بتيوت تعتبر جزءا من حضارة إنسانية واسعة، وليست رسومات صخرية ذات طابع محلي فقط.أجمع الأثريون أن الرسومات الصخرية بتيوت قام برسمها الانسان البربري،فالعنصر البشري المغربي القديم الذي واجهه الرحالة والكتاب الأوائل الفينيقيون و اليونان كان البربر.وكانت تحركات البربر* تمتد عبر الصحراء الكبرى من الشرق إلى الغرب، وكان يغلب عليها الانتماء إلى عائلة اللغات الحامية المختلطة بالسامية.

وترجع أصلا إلى منطقة عمان واليمن والصومال وشرقي إفريقية، وكانت تحمل معها تقاليدها الحضارية ولهجاتها وفنونها المختلفة، ويشير النص القرطاجي الذي كان يمثل تقريرا عن رحلة ملك القرطاجيين هانو إلى أجزاء من إفريقية فيما وراء مضيق جبل طارق إلى عناصر بشرية تعتبر من البربر، وكانوا لايزالون في ذلك الوقت في مرحلة العصر الحجري الحديث*، ذلك لأن المغرب الداخلي الصحراوي والجبلي كان لاتزال تسكنه قبائل البربر، وظلت لحد مافي مرحلة العصر الحجري الحديث حتى العصر الروماني(14)।وذهب بعض الأثريين أن الرسومات الصخرية قام بنقشها الرعاة النوبيين أواللوبيين،وقد احتملوا تاريخها فيما بين الألف الثانية أوالأولى قبل الميلاد(15).فيما ذكر أحد الباحثين المهتمين بالمنطقة أن قصور غرب الأطلس الصحراوي، قد بنيت من طرف قبائل البدو، ذات تعمير مستمر منذ القدم، حيث تعود المباني الأولى إلى نهاية العصر الحجري الحديث وبداية فجر التاريخ، إن البرابرة الجيتول قد اختار البعض منهم حياة البدو والترحال في الهضاب العليا وتضاريس الصحراء والأطلس الصحراوي، واستفادوا من وجود منابع المياه وخصوبة التربة التي تكونت في عهد البلاستوسين(16).ويلاحظ أن علماء الآثار الفرنسيين والباحثين الجزائريين لم يتمكنوا من تحديد أصول العناصر البشرية التي قامت بنقش هذه الرسومات على الصخور،ويبدو أن علماء الآثار الفرنسيين لم يفسروا هذه الرسومات الصخرية تفسيرا دينيا أو اجتماعيا، وإنما ركزوا في أبحاثهم على الجانب الكرونولوجي وعلى تقنيات الرسم،وعلى وصف الرسومات الموجودة،ولكن في الواقع هذه الرسومات كانت تعبر عن دلالات دينية واجتماعية وفنية،ربما كانت هذه الرسومات تدل على المعتقد الديني لتلك الأقوام،وعلى بداية التجمع البشري،واستمرار مرحلة الصيد،رغم وجود بقايا نباتية تدل على وجود الزراعة،وكانت تعكس كذلك تطور ذكاء الإنسان،والحياة الفنية في تلك الفترة،والتغير الثقافي وأيضا تعكس هذه الرسومات أنواع الحيوانات التي كانت موجودة في منطقة تيوت،ويلاحظ من خلال السهام التي كان يحملها الإنسان أنه كان في صراع مع هذه الحيوانات خاصة المفترسة كالأسود،فالرسومات الصخرية بتيوت تحتاج إلى دراسات معمقة وقراءات متعددة لفهم أبعادها الاجتماعية والدينية والفنية.