3‏/1‏/2014

بقلم:عبد القادر رابحي : قراءة نقدية في ديوان مجذوب العيد المشراوي

قراءة نقدية في ديوان مجذوب العيد المشراوي/عبد القادر رابحي

منحنيات السؤال الإبداعي في ديوان (توشيح الذاكرة) للشاعر مجذوب العيد المشراوي 

بقلم : عبد القادر رابحي
يحاول الشاعر مجدوب العيد المشراوي ان يطرح اساس السوؤال الإبداعي في ديوانه الشعري الثاني الصادر حديثا عن دار ليجوند.
وهو بطرحه السؤال الوجودي الملتصق بمقتضيات الحياة اللصيقة بالقصيدة إنما يعيد طرح السؤال الجوهري المتعلق بالكتابة ويحاول أن يجد الخيط الرابط للإجابة عنه والتي يكتشفها القارئ من خلال تتبع منحنيات التصور الفني و الجمالي في ديوان(توشيح الذاكرة)
بقلم:عبد القادر رابحي
جامعة مولاي الطاهر/سعيدة
++++
++++
بعد ديوانه الأول (ينابيع في الهضاب)(1) الصادر عن منشورات ليجوند في سنة2009، يعاود الشاعر مجدوب العيد المشراوي الكرّة قبل انقضاء السنة بقليل، بإصداره لديوانه الثاني (توشيح الذاكرة)(2) عن الدار نفسها، لتكون بذلك سنة2009 سنة الحسم الشعري بالنسبة للشاعر من خلال انتقاله من مرحلة (القول الشعري) إلى مرحلة (التدوين)، و كأنه أدرك أخيرا أن قول الشعر لا يمكن أن يتحقق إلا بنشره، وكأن المسافة الفاصلة بين القول الشعري التي يعبر عنها عنوان الديوان الأول بامتياز ليست سوى ذلك النبع المتفجر من أتون الذاكرة المتشحة (والمتوحشة) بهموم الكتابة و تألق الألم الساكن في الحرف و هو يبحث عن مستقر دائم في وطن اليياض الورقي الذي يبدو وحده القادر على أن يشفع لهذا الهمّ الشعري المكدس منذ الطفولة في مفازات الحرقة المترامية الأطراف، فيحوله إلى بياض ورقي مسوّد بحبر الأتعاب المتوالدة و الحاملة لبطاقة هوية يعبر عنها بامتياز رقم (ردمك) الروح و عنوان (الإيداع القانوني) في قائمة سلالة (الشعراء المغضوب عليهم) بأن أصبحوا من ضمن الذين نشروا أعمالهم.
و هو ينتقل بين (ينابيع) ديوانه الأول و (تواشيح) ديوانه الثاني، يدرك القارئ أن ثمة خيطا واحدا هو بمثابة حمض الهوية الشعري، يربط الوجع الساكن في الديوانين و المنهمر من أعماق الذات الشاعرة التي راكمت أزمنة الكتابة في مرحلة القول لمدة طويلة جدا اكتسبت من خلالها ما يجعل القول معتقا بلون الحبر الأسود المنسكب على البياض الذي يكاد يكون مستحيلا. كما يدرك القارئ كذلك أن الإصرار على مواصلة الرؤية الفنية والجمالية نفسها ناجم عن قناعة فكرية من الصعب على الشاعر أن يقتنع بغيرها في هذه المرحلة (مرحلة كتابة قصائد الديوانين).
و يبدو همّ الشاعر في ديوانه الثاني ( توشيح الذاكرة) كما في ديوانه الأول( ينابيع في الهضاب)، هو نفسه الهم الذي يتملك القارئ و هو ينتقل من حدائق الرؤية الفنيةو الجمالية التي يحاول الشاعر أن ينطلق منها من أجل توصيل رغبته في صياغة المسافة الشعرية وفق نمط فني و جمالي معين إلى قارئ طالما تعود على مواجهة أنماط ذوقية أصبحت كلاسيكية بإصرارها على بيع نفسها في المزاد العلني للكتابة على الرغم من (حداثتها) أو مما تدّعيه من حداثة. و لا يشعر القارئ أن ثمة تكلفا في التصور الجمالي، أو تكلفا في البحث عن الغريب و المخالف، أو تكلفا في الصياغة اللغوية و الطرح الفكري من خلال البحث عن هذه الأشياء منفصلةأو مجتمعة لتجعل منه شاعرا مسايرا لموجة ما هو أقرب للبهرج من الكتابة. وكأن الشاعر يوازي هكذا و بكل بساطة بينه و بين عصره، فيضع تجربته الشعرية في كفة و تجربة العالم في كفة أخرى. وهو لا يعبأ إن مالت إحدى الكفتين إلى جهة القلب بضربات الترجيح الشعري، بل يكاد لا يعلم بذلك أصلا على الرغم من أنه :
جرّبَ القلب شوطين
كانت على بعضه
كوّةٌ تسكن الحبّ
يمضي إلى وهْجها متعبا(3)
إن ما يصدم فعلا في الديوانين معا، هو هذه اللامبالاة التي يواجه الشاعر بها قارئه من خلال الإمساك بسلاح المغامرة الإبداعية من دون الشعور بأنه سلاح ذو حدين بإمكانه أن ينقلب على صاحبه في أية لحظة فيجعله أسيرَ رؤيةٍ جماليةٍ بعينها أو شكلٍ فني بذاته. و من ثمة، لا بد من الاعتراف بأن ثمة مجازفة بريئة في تصورها للعالم الشعري و صادقة في تلاحمها مع ما يكتنف هذا العالم من مصاعب وجودية. ولذلك فهي صافية في التعامل مع مقتضياته الفكرية و مع تداعياته الفنية و الجمالية كذلك.
1-في البدء كان السؤال:
تَرْشَحُ المساءلة الوجودية في نصوص الديوان كما ترشح زبدة القول بعد مغامرة الغربلة الفنية و الدلالية. تتبلورالسياقات الفكرية شيئا فشيئا لتعطي للقارئ صورة عن الشاعر و هو ينسج على منوال نفسه في طرحه للسؤال الوجودي الدّائم:
ما الماءُ ؟
ما الريح؟
ما الأشياءُ؟
ما الخجلُ؟
من أنتَ؟
من شكّل الأنواء..
فانتقلتْ؟
وكان يذكرها في خافقي البَلَلُ (4)
و لعله سؤال غير جديد على الرغم من أنه متجدد في نظر الشاعر كما في نظر القارئ، غير أنه يستمد أحقية طرحه في خضم المغامرة الشعرية من أقدميته دون أن يكون للطرح شيء من صدى المعاودة أو التكرار. فذلك مما لا يمكن أن يتحمله النص المقتضب المبني بناء عموديا في قالب يحاول أن يكسر الرؤية العينية للشعر العمودي كما هو الحال في العديد من قصائد الديوان على غرار قصيدة(حصة من سعال)(5) و قصيدة(دائرة لألوان)(6) أو غيرهما. وكأن التوغل في طرح السؤال هو توغل في البحث عن صيغة جديدة لطرحه يحاول الشاعر من خلالها أن يبرر بقاءه في متن النص مع الاحتفاظ بإمكانية قبول السكن في هامشه من دون إيقاظ ما يمكن أن يزعج الرؤية الفنية و هي تتماهى مع الواقع الشعري من دون أن تخونه.
ومثلما يأخذ السؤال في الديوان صفة الطرح الوجودي الذي يبدو وكأنه يبحث عن إجابة نهائية مع العلم المسبق بعدم إمكانية تحققها- ومن ثمة فإنه سؤال اللاجدوى في غياب الإجابة الشعرية -، فإنه يأخذ صفة الطرح الاستفهامي الذي عادة ما يستقي من الشاعر المتنبي صدقية اقتناعه بصغر العالم اللاشعري وتضاؤله بالنظر إلى كِبر السؤال الشعري كما كان يتصوره المتنبي في أسئلته الاستفهامية المشهورة. و يعيد المشراوي هنا صيغة (المتنبي) (من علّم...؟) بالطريقة نفسها للتأكيد على ضرورة الاستعانة بكِبر الذات الشاعرة وهي تواجه زيف الواقع المأسور بين (التحجيم والتفخيم) كما سنرى في العنصر القادم. يقول:
من علّم البكم فتوى قرب قافيتي
توشحت بعضُها الأحكامُ و الصدفُ
أيُّ انحناءاتك العجماء تدهشني
وأنت ما فارقتْ أمواجك الجِيَفُ (7)
غير أن هذا السؤال، بإمكانه أن يتحول إلى سؤال حيرة و إدهاش من خلال تمرير الكوني من عين الإبرة ( وهي عادة ما تكون إبرة اللغة)، و وضع المتناهي في الصغر في وجه الأفق الممتد أمام الشاعر فيغطيه حتى لا نرى منه شيئا ( وهو عادة ما يكون مرآة القلب الحاجبة لكل شيء ما عدا المحبوب). وهو- أي الشاعر – في هذه الحالة لا يكون أكثر من مصغٍ لذاته الشاعرة تقولُ و لا يدري:
ما سرُّ أن تلد الشهامة صاغرا
ما سرّ أن تلد الشهامة ناعسا
ما سرّ هذا الصمت..؟ هل بلغ الهوى
قمم المجون فعدت تعمل حارسا؟(8)
أو كما يعبر عنها في قصيدة أخرى:
ما سرّ هذا الهيام المرّ.. هل تعبتْ
رؤيايَ؟ هل جبتُ في أعماقِيَ النِّعما؟ (9)
و بغض النظر عمّا يمكن أن يحمله حضور السؤال في الديوان من مفاتيح باطنة و ظاهرة للوصول إلى عمق النص و عمق دلالاته المتخفية، فإن تجلّيه على مستوى الصياغة اللغوية و النسق الدلالي كفيل بتحويل مجرى اهتمام القارئ إلى ما هو أهم من الانجاز الشكلي أو الفكري في الديوان و إرغام القارئ على إعادة صياغة مجموع الأسئلة بأشكالها المختلفة في صورة تتوحد فيها جل الأسئلة و تُصاغ في صورة واحدة قد تكون: هل السؤال هو جزء من العملية الإبداعية؟ و هل السؤال هو إستراتيجية متعمدة من طرف الشاعر من أجل الوصول بالنص إلى مأزق التناقض الإبداعي المولد لفتنة القارئ ،أم هو مجرد تهويم فكري تمت صياغته في صور مختلفة للتعبير عن هشاشة الحالة الوجودية التي يَعْبُر بها الشاعر الأزمنة الشعرية و يعبّر من خلالها عن ذاته المتلظية بنار اللحظة الإبداعية؟ و هل السؤال الحاضر في نصوص الديوان حضورا واضحا هو الرسالة التي يريد الشاعر أن يمررها للقارئ و الشفرة التي يتم من خلالها الوصول إلى سرّ(ما المتسائلة) في الديوان، أم هي مجرد دعوة لإشراكه في البحث عن إجابة عنها لا يستطيع أن يجد الشاعر لها مخرجا جماليا مُقنعا. و على الرغم من أنه "لا توجد شفرة عامة، و في أحسن الأحوال يمكن القول إن الشفرة العامة تظهر أثناء عملية القراءة"(10)،فإن استراتيجية السؤال التي تبدو و كأنها استراتيجيات النص لا تقدم أكثر من إطار يجب على القارئ أن يؤسس داخله الموضوع الجمالي"(11).
2- سريان اللغة في مجرى النص:
يطرح الشاعر مجدوب العيد المشراوي على مدى ما يفوق الأربعين قصيدة، رؤية ذاتية لإمكانية تألق اللغة بوصفها عجينة للكتابة من دون أن يُشعر القارئ بانخطاف فجائي نحو الغريب من التصوير أو الشاذ من النسج. إنه يتعامل مع اللغة لا على أساس الاقتصاد في مساحاتها الجُمَلِيّة و الإغداق في مساحاتها الدلالية، و إنما على أساس المعاملة بالمثل،إذ نشعر و كأن الشاعر يمدّ اللغة بالقدر الذي تعطيه. لا يلوي عنق معنى يبحث عنه عمدا في ثنايا الدلالة، و لا يقيم للألفاظ محفلا موسميا تحتفل فيه بما ليس فيها ثم سرعان ما تعود إلى حجمها الطبيعي بعد افتراق المؤوّلين و القراء. يقول الشاعر في قصيدة (موحش):
يعْذُب الهمس كلما نام بعضي
في ضفافٍ تمرّ فيها الخيولُ
ما استراحت بنا الجرار فأنّى
يلمس اللون و الدّمار العذولُ
يكبر الحبّ في القديمات حينا
فيثيرُ الدّلالَ فينا الذّهولُ(12)
تسرى اللغة في النص مسرى الخيول في الضفاف. كأن النص في نظر الشاعر و هو يعانق لحظة الكتابة ببراءة الطفل الشارد، مجرد لوحة سريالية يستنجد فيها الرقيق بالأكثر رقة، و يستغيث فيها الهمس بالعذوبة كلّما خُيّل للشاعر أنه نام بأقل من عين واحدة ليترك ما تبقى من الرؤيا مفتّحةً على عالم الحواس، يَقِظةً تتصيد ما يجعل الصورة الشعرية تنبني من صلب ما هو شعري و ليس العكس. ذلك أن "الشعري هو المجال الأجدر بالدرامية لأنه يهتم بالعلاقة لا بالشيء . و إذا كانت كل علاقة تعني توترا ما و مسافة ما، فالصورة الشعرية هي المثال الأكثر بروزا للتوتر بين طرفين و للمسافة بينهما"(13).
و من هنا نرى أن الشاعر يحاول أن يبحث عن لغته الخاصة في صلب ذاته الشاعرة و التي بها يستطيع أن يتقدم خطوة إلى الأمام غير مبال بما سيحدث للنص من تجاذب فكرى أن تصارع منهجي. و لذلك فهو يولِّد قاموسه من عمق المكابدة الخاصة بغض النظر عن أهمية هذه المكابدة و نوعها. لأن الشاعر لا يمكنه الإفصاح عن هذه المكابدة مباشرة، و إلا سيسقط في شرك الإدعاء المجاني كما يحدث للعديد من الشعراء و هم يعتقدون أنهم انتصروا على اللغة في حين أنها تفضحهم في كل مأوى لفظي جاهز و في كل خانة نحوية مستعصية. و من ثمة، فإنه يعتقد أن مسافة الألف ميل تبدأ باللغة، و بدون فهم خصوصيتها و خصوصية التعامل معها برهافة حس، فإنه لن يتقدم في المغامرة الشعرية قيد جملة شعرية أصيلة. و لذلك فهو يعلن لون لغته (السمراء) منذ الخطوة الأولى لعله يصل إلى (دولة اللغة) منتشيا بخصوصية الطريق على الرغم من صعوبتها:
هذي بداياتُ مسكونٍ
يكرّرني
توشّحَ الماء ثمّ الرّيح
و انتقلا
لي هذه اللغة السمراء تدفعني
لأمزج المشي و الأميال
و الدّولا (14)
و هو على الرغم من طول المسافة و عزّ المكابدة التي تفضل الصمت على المجاهرة بالقول، يندفع صادقا في بناء علاقة واقعية بالعالم المحيط به من أجل إدراك تعقّدات الحياة و هي تقدم الأنموذج الأكثر ابتعادا عمّا يريد الشاعر تحقيقه عن طريق اللغة، لا لشيء إلا لدفع الشاعر إلى أدغال المغامرة اللغوية و استدراجه إلى مقازاتها الملتوية ومتاهاتها المعقدة من أجل الإيقاع به في بركة تكرار الأنموذج و من ثمة الوصول بالشاعر إلى إنتاج النص الميت في صورته الشعرية الممجوجة و في بنائه الدلالي المكرور. و من هنا يحسب الشاعر لفخ السقوط في هذه البركة ألف حساب، و يتعامل مع العالم بواقعية من خلال إعطاء العلاقة بين الذات و العالم أبعادها الحقيقية من قياس المسافات بطريقة زئبقية. يقول الشاعر:
لستَ شمسا تنير أمتار صمتي
لستَ جمرا يردّ لي حرّ روحي
أنت في بسمتي و إن متُّ يوما
وجعٌ يستظل بين الجروحِ(15)
يحاول الشاعر أن يبتعد عن ثنائية التحجيم والتفخيم في صياغة اللغة و بناء الدلالات، و التي عادة ما تطبع العديد من النصوص و تنطلي على أصحابها. و هي ثنائية ، إن لم يراع الشاعر من خلال التعامل معها هاجس الفرادة الإبداعية و هامش الزخم اللغوي الممكن تحقيقه، فإنه سيسقط لا محالة في فخ الاستدراج المؤدي إلى النصوص التهويمية الغامضة التي لا يُوفَّق صاحبها في وزن المعادلة الإبداعية الصعبة: معادلة سكب التجربة الذاتية الواضحة في عالم اللغة الغامض حتى لا يكاد القارئ يشعر أن ثمة وضوحا خارقا في الغموض وغموضا مشعًّا في الوضوح .
و هو يتابع سريان اللغة في الديوان وانسكاب اقتراحاتها الدلالية على بياض الكتابة يشعر القارئ أنْ ليس ثمة غرضا شعريا واضح المعالم يسكن في الديوان بطريقة متعمدة كما هو الحال في القصيدة العمودية التي عادة ما تتميز بوضوح أغراضها و اختلاف أساليب صياغتها، و من ثمة وضوح التصور الجمالي الإستاطيقي لبنية النص منذ البداية. و كأن الشاعر يحاول أن يتجاوز التقسيم القديم اللصيق بالقصيدة العمودية من خلال محاولة تبديله بما يمكن للغة أن تنتجه من رموز في تعالق وحداتها الألسنية و تضافر انساقها الدلالية من أجل الوصول إلى نسج رداءٍ جمالي ليس بالعموديِّ في مقاربته للبناء الشكلي المرتبط بالأغراض و خصوصيتها حتى و إن كان يشبهه. و ليس للقارئ و هو يبحث عن هذه الخصوصية إلا أن يقول عندئد: كأنه هو. و كأن الشاعر يحاول أن"يعتمد على مفهوم الرمز من أجل دحض فكرة الأغراض، و دحض السخافات المتعلقة بوحدة القصيدة[...]، فالرموز في الشعر ليست بنات حديثة الميلاد، و ليست هناك طريقة واحدة أو طريقة مفضلة للإنتفاع بها"(16). و تصبح اللغة و هي تبحث عمّا يوفّر لها قُوْتَها من المكابدة اليومية رمزا بالغا في بحثه عمّا يُقنع القارئ بأن الذات الشاعرة تريد على الرغم مما يمكن أن يكتنف بعض النصوص من خفوت و هي تخرج في صورتها النهائية، بشيء من ضعف القوّة و قلّة الحيلة.
3- إعادة كتابة قصة الخلق الإبداعي:
يحاول مجدوب العيد المشراوي أن يعيد كتابة قصة الشعر تماما كما يحاول الفيلسوف أن يعيد كتابة قصة الخلق. و لذلك فهو يحاول أن يأتي بالجديد في ثوب القديم، أو يحاول أن يعيد كتابة القديم في ثوب جديد. فهل استطاع الشاعر أن يغيّر المِنْوَل أم يكتشف طريقة جديدة في النسج، أم يعيد ترتيب الألوان في النسيج العام للنص في ديوان (توشيح الذاكرة)؟.
ثمة قصائد تبدو و كأنها حرّة في حين أنها عمودية، و ثمة جمل تبدو و كأنها عمودية في حين أنها حرة. و ثمة لغة تبدو و كأنها ليست بالعمودية و ليست بالحرة، أو كأنها هما معا. لعل الشاعر يريد من خلال ذلك أن يتلاعب بإمكانيات التشكيل المتوفرة لديه من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من مساحة الإقناع من خلال محاولته التحكم في لعبة الظهور و التخفي التي تطال الشكل الشعري العام للديوان. ما المغزى من ترتيب قصيدة عمودية من البحر البسيط في شكل يوحي للقارئ بأنها قصيدة حرّة؟كما هو الحال في قصيدة (دائرة الألوان)(17)، خاصة و أن بجانبها أختها من البحر نفسه كما هو الحال في قصيدة (أسئلة أخرى)(18)مرتبة ترتيبا تقليديا و تتوفر على المبادئ الجمالية نفسها التي طالما ارتبطت بنظرية عمود الشعر منذ الجرجاني إلى المرزوقي ، و هي : مبدأ تساوي الشطرين و مبدأ الوزن ومبدأ القافية. هل هو التوجس من رؤية الشاعر متلبسا بشكل واحد يصبح به محسوبا على رؤية جمالية بعينها ومن ثمة على موقف فكري مرتبط بهذه الرؤية؟ أم هو البحث عن البصمة الخاصة في الذات الشاعرة التي تريد إعادة قراءة الحادثة التاريخية من بدايتها لعلها تظفر بما يمكن أن يؤسس لخصوصية البصمة الشعرية؟. يقول الشاعر في قصيدة (هُمَا) للإحالة إلى قصة آدم وحواء عليهما السلام:
هما قصة الشمس
يمشي إليها الربيعُ
هما سرّ من غامروا في اليسارْ
هما حاولا الخلدَ
و استعجلا في القرارْ.. (19)
ثمة محاولة خفية لتقمص أدوار عدة في ثوب واحد من طرف الشاعر لا تنم عنها أشكال النصوص التي تكاد تكون شكلا واحدا هو الشكل العمودي على الرغم من اختلاف لغته كما أشرنا سابقا، و إنما ينم عنها التصور العام الذي يخرج به القارئ وهو يقارن بين الطرح الجمالي في قصيدة (هُما) و ما يقابله في قصيدة (خطى الرفض)(20) على سبيل المثال لا الحصر. و لا يمكن أن تعكس حالة التقمص هذه غير الرغبة الملحاحة في الفصل النهائي لمعركة الأشكال الشعرية التي يبدو أن رحاها لا زالت تدور في عمق الشاعر على الرغم من انتهاء أسبابها وتداعياتها على المستويين الإبداعي والنقدي منذ زمن طويل. نلحظ ذلك جيدا في هذا اللبوس الشعري الذي تتزين به الفكرة في كل مرّة ترى أنّ لها ضرورة قصوى في التمظهر بمظهر الكتابة الحداثية وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا: انظروا إلى هذه القصيدة .أنا الذي كتبتها. و أستطيع أن أكتب ما هو أحدث منها و لكنني لا أريد. و لا يعبر الشاعر عن رفضه هذا إلا من خلال إبداء رغبة متخفية في القبول بأنماط الكتابة الحديثة على الرغم من أنه لا يستسيغها كثيرا. و ربما جاء الديوان أقرب إلى الرؤية العمودية الكلاسيكية منه إلى ما يستطيع الشاعر أن يحققه من قفزة نوعية في التعامل مع الأشكال بدون عقدة مسبقة لو أراد ذلك فعلا. و لعله من هنا يصبح الإيقاع العام للديوان متجانسا في تراتبيته و إخراجه على البياض، لكنه يخفي هذه الإمكانية الضائعة التي تعبر عنها القصائد الحرّة المزروعة كالقنابل الموقوتة في حقل عمودي مفخخ. يقول الشاعر في قصيدة (شئتَ):
شئتَ أن يرحل الماء سرّا
و أن يكتب الماء إنجيله
في قصاصات هذا المدى
شئت أن أخلط البحرَ
بالليلِ بالحبّ
بالإثمِ بالفاجعَهْ
شئتَ أن أسكن الصمتَ و الليلَ
مثل الخياناتِ..
أنْ أُنْبِتَ الوردَ
دون حكاياتِ
مَنْ ضيَّقُوا الواسعهْ (21)
و على الرغم مما يقدمه هذا الأنموذج من صورة تشكيلية متميزة على مستوى صياغة الفكرة الشعرية و تحقيق المستويات التقنية و اللغوية لتجسيدها على بياض الكتابة، فإن الأذن القارئة لا تغادر مستويات التوليد الإيقاعي من خلال تمركز (الأنا الإيقاعية المسيطرة) على الديوان في بؤرة التشكيل الكلاسيكي بلغة تكاد تكون حرّة في تصورها للعالم و للأشياء على الرغم من محاولة الشاعر أسرها في قوالب البحور الخليلية التي تنوعت هي الأخرى من البسيط إلى الخفيف إلى الكامل إلى الطويل. و هي البحور التي عادة ما يقاس بها طول نفس الشاعر و مدى قدرته على صب المعاني فيما اعتادت العرب أن تسمع من خلاله ما يُدخل الشاعر في الدائرة الضيقة للفحولة الشعرية.
ـــــــــــــــ
هوامش وإحالات:
1-المشراوي،مجدوب العيد. ينابيع في الهضاب. منشورات ليجوند. الجزائر. 2009.
2- المشراوي. مجدوب العيد. توشيح الذاكرة. منشورات ليجوند.الجزائر.2009.
3-توشيح الذاكرة. ص:68.
4- توشيح الذاكرة. ص:36.
5-المصدر نفسه .ص:49.
6- المصدر نفسه.ص:51.
7- المصدر نفسه. ص:43.
8-المصدر نفسه.ص:46
9- المصدر نفسه. ص: 53.
10- إسماعيل، سامي. جماليات التلقي.المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة.2002.ص:113 .
11- إسماعيل، سامي. المرجع نفسه. ص:113.
12- المصدر نفسه:13.
13- منير، وليد. جدلية اللغة و الحدث في الدراما الشعرية الحديثة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة.1997. ص:57.
14- توشيح الذاكرة.ص:52.
15- المصدر نفسه.ص:42.
16- ناصف، مصطفى. نظرية المعنى في النقد العربي. دار الأندلس.ط:2. 1981.ص:131.
17-المشراوي. توشيح الذاكرة.ص:52.
18- المصدر نفسه. ص:53.
19- المصدر نفسه. ص:38.
20- المصدر نفسه. ص:56.