5‏/12‏/2010

الشهيد الكاتب الحبيب بناسي الذي ابهر الأدباء و النقاد

كاتب موهوب صقلته تجارب الحياة، رغم صغر سنه، ولولا أن الموت أدركه مبكراً لكان له شأن كبير في الأدب الجزائري المعاصر، إذ أن كتاباته التي تركها تتصف بالثراء والجد في البحث عن أشكال أدبية جديدة.‏احتوى كتابه "صرخة القلب"(22)" على عدة فنون كالخاطرة والمقال الأدبي والمقال السياسي، والصحافي، والمحاولة القصصية، وكان على دراية واسعة بمسار الأدب الجزائري، واتجاهاته الفنية والفكرية.‏عالج في خواطره موضوع الحب الذي كان شبه محظور في عهده وقد كتبه برؤية وأسلوب (رومانتيكيين) حادين، يفيضان بأفكار الكاتب العربي المبدع جبران خليل جبران، فهذه الألفاظ المشهورة في كتاباته: الهيكل والناموس والغيب، والمحراب، والخمر، والمواكب تكاد لاتخلو منها أية خاطرة من خواطر الحبيب بناسي، قال في إحدى خواطره: "إنك بعد حين ستلتقي بالحبيب في عالم ما وراء الغيب، وسترفرف بجناحك إزاءه، وهناك تدخل محراب الحب، وتنحني لذاته المقدسة، وتشرب من خمره وتسمع أناشيد ترتلها مواكب المحبين.."(23)‏حاول الحبيب بناسي تغيير مفهوم الأدب السائد في الحياة الأدبية. وخصوصاً في منابر العلماء. حيث كان الأدب إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مقصوراً على الشعر ودراسته.(24) ووصف الأدب بأنه "أفكار وخواطر تولدت من عوامل كثيرة، وتجمعت في فرد واحد أو في أفراد متعددين."(25)‏كتب بضعة قصص تعد فتحاً في القصة الجزائرية المعاصرة على صعيد الموضوع والفن، واكب بها أحداث الجزائر الاجتماعية والسياسية، منها قصة بعنوان: "يتيم الأصنام"(26). وأخرى بعنوان "الحب والشرف"(27). تصور الأولى طفلاً فقد والده أولاً، ثم والدته التي هوت عليها جدران العمارات في أثناء طوافها بشوارع المدينة بحثاً عن طعام له، بينما تصور الثانية، وبرؤية رومانسية عاطفية الحبّ في الريف الجزائري. ففيها وصف ملامح الشخصية المحورية، ويقوم هذا الوصف بوظيفة هامة، من حيث الكشف عن صفات البطل النفسية والجسمية.‏ونلاحظ في هذه القصة ضعفاً فنياً ربما سببه حديثه الطويل عن حب القائد الرئيسي "نابليون" لزوجته "جوزفين"، وثأر نابليون من زوجته عندما علم بخيانتها فقد اتخذه بطل القصة عبرة، ومثلاً احتذاه عندما اكتشف أن خطيبته تخونه مع شاب آخر، فسارع إلى طلاقها. وجاء ضعف القصة في خاتمتها الوعظية التي جاءت على لسان صديق البطل، وهي بذلك لا تختلف عن نهايات القصص الاصلاحية في المرحلة الأولى.‏وكتب في السياسة ثلاث قصص قصيرة وهذه مقالات صور فيها بعض جوانب الوضع السياسي في الجزائر بعد اندلاع ثورة نوفمبر العظيمة في 1/11/1954م.‏أما قصته "شهيد بلا قبر(28) فإنها تصور شاباً مثقفاً تخرج في جامعة القاهرة من كلية الآداب، وفي أثناء وجوده بالقاهرة كان يراسل الصحف الوطنية في الجزائر، ولكنه ما إن سمع بقيام الثورة حتى عاد إلى بلاده، إلا أن سلطات الاستعمار سارعت فألقت القبض عليه بتهمة أنه همزة وصل بين القاهرة، والثورة في الجزائر، ثم أدخلته إلى غياهب السجن، ولما رفض البوح بأسرار الثورة قتل، ثم رموا جثته في البحر.‏وصور في قصة "مأساة أسرة"- وهي قصة وطنية- نهاية أسرة جزائرية ثرية تملك أراضي واسعة، وضيعة جميلة، وبضعة سيارات فاخرة، ألقت السلطات الاستعمارية القبض على معيلها، بعد أن أخطرها حساده بأنه يؤوي في بيته مجموعة من المجاهدين نهاراً، ويقدم إليهم كل ما يحتاجونه.وفي هذه القصة تتجلى طريقة بناسي في الحديث عن انتشار أخبار الثورة، وتغلغلها في البيئات الجزائرية، حيث يمهد لذلك بتغير طباع شخصياته ويصنع جواً متوتراً بينهم وبين المحيط. فملامح الشخصية المحورية (الطبيب) مثلاً تتغير طباعها، فيحس عماله بجفائه وابتعاده عنهم، ويفقدون بذلك الجلسات الممتعة التي كان ينظمها لهم في بيته، وفي معظم الأحيان يكون هذا التغيير دافعاً قوياً للناس إلى معرفة الأمور الجديدة، كما أن للكاتب أسلوباً جديداً في تقديم شخصية (المجاهد)، فهو لا يكشف أمره للناس منذ الوهلة الأولى، وإنما يقدمه في صورة شخص "غريب" عن الديار أو الحي، لا يعرف المواطنون عنه شيئاً.‏فالمجاهدون يأتون إلى بيت (الطبيب) في ساعة متأخرة من الليل، ولا يبرحونه طوال النهار، فإذا أقبل الليل وأسدل ستائره السود، خرجوا حيث لا يعلم أحد مقصدهم "مقنعون ولا يتحدثون إلا هامسين ويرتدون ملابس خاصة ويحملون أنواعاً من الأسلحة والذخائر الحربية"(29).‏ولقد حقق هذا الأسلوب هدفين هامين:‏الأول أنه خلق "تشويقاً" حاداً في نفوس الأهالي لمعرفة هؤلاء "الغرباء" المقنعين أو الذين لا يتحدثون إلا همساً، ولا يخرجون إلا حين يشتد ظلام الليل من جهة، والثاني أنه أشار إلى السرية والحذر اللذين اتسمت بهما الثورة التحريرية وعلى كل، فإن هذا العمل يعد من أساليب العمل الفدائي.‏وتتصف الشخصية الوطنية في قصص الحبيب بناسي بالثقافة العالية، وحسن الأخلاق، فبطل قصته "شهيد بلا قبر" يحمل شهادة الليسانس من جامعة القاهرة، ويعمل مراسلاً صحافياً للجرائد الوطنية الجزائرية، أما قصة (الدكتور الشهيد) فهي في سيرة المجاهد الجزائري الحكيم: "بن عودة بن زجرب" وطريقة استشهاده، ونلاحظ أن صفة عامة تشترك فيها الشخصيات الثورية في قصص بناسي، وهي انتماؤهم إلى أسر ذات جاه كبير، ومال كثير، وعلم غزير، ويكاد بناسي ينفرد بهذا الوصف في تاريخ القصة الجزائرية، لأن معظم القاصين الجزائريين صوروا شخصية الثري إلى جانب شخصية الخائن الذي يحافظ على مصالحه، وتنمية ثروته بشتى السبل والوسائل حتى وإن كانت ضد قيم بلاده، أو ضارة بشعبه، أو حتى بأهله، وأن القضاء عليه أمر لا يقل شأناً عن القضاء على المستعمر، أو حليفه الطبيعي المعمر.‏كما يمكن اعتماد الملامح التي رسمها الحبيب بناسي للجندي الفرنسي في قصصه قاعدة أساسية لصورة الفرنسي في النتاج القصصي الجزائري، فالفرنسي سييء الخلق عديم الإنسانية قلبه خال من الرقة لا يسمع غير صوت الباطل ونداء الظلم.‏وهكذا حاول الحبيب بناسي تطوير مفهوم الكتابة الأدبية، وتجاوز التعريف السائد آنذاك للأدب مستعيناً بذوق فني رفيع، وقد قادته رؤيته الجديدة للفن لأن يواكب تطور الحياة الاجتماعية والسياسية في الجزائر. وكان بذلك سباقاً إلى موضوعات حرب التحرير، ولكن محاولاته القصصية قليلة وينقصها الصقل.‏

............الحبيب بناسي في سطور .......

من مواليد 13 ديسمبر 1928 بمدينة المشرية بولاية سعيدة. لما بلغ الثانية عشر من عمره انخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري والكشافة الإسلامية التي كوّنت لها فرعاً بمدينة المشرية.ظهرت مواهبه الأدبية أثناء نضاله في حزب الشعب مبكراً ، وكذا نشاطه النضالي ، وخاصة عندما وقعت أحداث الثامن من ماي 1945.وكان لنشاطه هذا الفضل في أن يتعرف على شخصيات بارزة كانت في المعتقل بمدينة المشرية مثل الشيخ العربي التبسي والشيخ سعيد الصالحي . وأيضاً ، لما سافر للجزائر العاصمة التقى بالكثير من زعامات حزب الشعب وشارك بإلقاء خطب حماسية.لما احتد النزاع بين جناحين في حزب الشعب حول طريقة مواصلة الكفاح كان الأديب الحبيب بناسي يميل مع الذين يطالبون بالإسراع في الكفاح المسلح لأن ما أُخِذَ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة .ومن أهم ما ميَّز نشاط الأديب الشهيد من العام 1954 هو كتابته سلسلة مقالات على شكل مراسلات نشرها بصحف تونسية ، وكان موضوع مقالاته يدور حول الثورة واحتضان الشعب الجزائري لها . وقد اتصلت به جبهة التحرير الوطني بعد أن لفت نشاطه الصحفي انتباهها له فكلَّفته بالإشراف على تأسيس خلية فدائية ، وأصبح مرشداً ومنظماً للحركة الفدائية بمدينة سيدي بلعباس ، كما شارك في أكبر هجوم شنه الفدائيون على المدينة في نوفمبرسنة 1956. والتحق بعد هذه العملية بصفوف جيش التحريرفي الجبال.استشهد عليه رحمة الله في 15 ديسمبر 1956 . وتفيد بعض الشهادات أنه قد استشهد حرقاً ، وذلك بعد معركة بين جيش التحرير وقوات الاحتلال الفرنسي.أما عن آثاره الأدبية فيقول الأستاذ شريبط في كتابه « مباحث في الأدب الجزائري المعاصر» أن الأديب الشهيد قد ترك عملاً واحداً طبع جزأه الأكبر بتلمسان عام 1956 وهو « صرخة القلب » وهو كتاب يحتوي على لوحات قصصية يغلب عليها الأسلوب الرومانسي كما بدا أسلوبه في هذا الكتاب قريباً من أسلوب الكاتب اللبناني جبران خليل جبران و خصوصاً في نزعته الثورية ، فقد تحدث عن الرسم بقوله : « من أنت أيها الرسم أحياتي أم روحي ؟ أم ملك مقدس بعثت به أرواح الجمال من تلك السماوات الروحانية ليخاطب روحي ويعانقها فتمتزجان وتسموان معاً إلى برزخ الأرواح . أم أنت روح فنيس آلهة الحب والجمال » . لكن هذا الأسلوب تغير وصار واقعياً وتجلى ذلك خصوصاً في مقالاته ومراسلاته التي كتبها في مرحلته الأخيرة.ومن كتاباته « يتيم الأصنام » و« شهداء الأدب والسياسة » و«دماء ودموع» و«شهيد بلا قبر» و«لبيك يا جمال» و«الحنين إلى الوطن» و«الإمام عبد الحميد ابن باديس» و«الثورة الجزائرية .. كيف نشأت». يوصف قلم الأديب الشهيد بأنه كان خصباً فأحسن استخدامه في الدفاع عن قضية بلاده والتعريف بمآسيها لدى الخاص والعام ، وأثرى الحياة الإبداعية والنقدية التي تعدّ اليوم شاهداً على الثورة التحريرية.

المصدر جمعية اقلام المشرية