4‏/12‏/2010

كلمة عن المشرية


حينما أتحدث عن مدينة المشرية، فإنما أتحدث عنها بمنظار طفولتي ، فلقد استبحر الآن عمرانها وتجدد شبابها وأصابها من التغيير في بنيتها الاجتماعية والثقافية والسياسية ما أصاب سائر المدن الجزائرية بعد الثورة المظفرة واسترجاع السيادة الوطنية .

لقد كانت الجزائر في ذلك العهد مقسمة إلى ثلاث عمالات ،عمالة وهران ،وعمالة الجزائر ،وعمالة قسنطينة وكانت مدينة المشرية تابعة لولاية وهران، ولكنها من الناحية الإدارية محليا كانت خاضعة إلى نظام عسكري قاس أي أن أبناءها لم يكونوا يستدعون للخدمة العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي،لأنهم كانوا مجندين محليا وتلقائيا ، ولهذا كانت جميع الأحزاب الوطنية تنادي بإلغاء هذا النظام العسكري أو الأحوال الممتزجة كما كانت تسمى ، لقد كان على رأس الإدارة حاكم عسكري ،يتمتع بنفوذ كبير ،وسلطة واسعة ، وكان مقره وسكناه في قلب المدينة . ويوجد إلى جانب ذلك ثكنة عسكرية كانت دائما مليئة بجنود اللفيف الأجنبي المعروف بتصرفاته الشاذة واستفزازاته الوقحة ، لقد قال لنا والدنا أن جنديا فرنسيا قد اشترى منه بضاعة ولكن بعد مرور الأيام لم يدفع الثمن، فقدم شكوى إلى الإدارة ، لكن الإدارة رفضت هذه الشكوى بدعوى أن الأهلي لا يجوز له أبدا أن يقدم شكوى في حق الجندي الفرنسي لذلك استدعته وأرغمته على سحب شكواه، والاعتراف كتابة بأن ذلك لم يكن له أساس من الصحة ، ثم سجن لمدة ثلاثة أيام .

وفي مدينة المشرية أودية جافة لا تفيض ماءا إلا إذ سقطت الأمطار بغزارة ، وفيها جبل قريب من المدينة هو جبل "عنتر" ، ولقد اعتبرته الإدارة الفرنسية مركزا استراتجيا هاما تراقب منه حدود الجزائر الغربية ،وفيها مطار تهبط فيه الطائرات الخفيفة . ومنطقة المشرية منطقة رعوية يشتغل أهلها خاصة البدو المقيمون في الضواحي بتربية المواشي ،وأبرز نباتاتها الحلفاء و الترفاس، وغيرهما من الحشائش والأعشاب،أما فيما يخص التعليم فلقد كانت فيها مدرسة فرنسية واحدة ابتدائية وفيها مسجد عظيم يصلي فيه الناس الصلوات الخمس أما يوم الجمعة فإنه كان يكتظ بالمصلين حتى وقع تمديد فنائه عدة مرات وكانت تشكل فيه حلقة لتلاوة حزب واحد من القرآن الكريم في كل يوم عقب صلاة المغرب مباشرة ، ويمتلئ أيضا في شهر رمضان لصلاة التراويح ، أما ليلة القدر فإن الصلاة كانت تدوم فيه إلى غاية اختتام القرآن ،

وتوجد إلى جانب هذا الكتاب (الجوامع) لتحفيظ الصبيان القرآن الكريم .

أما سكانها فهم بصفة عامة يتكونون من عنصرين أساسيين العنصر العربي (الحضر والبدو) وعنصر أمازيغي نزح من مدينة بوسمغون والشلالة وعسلة ، وإلى جانب هذين العنصرين هناك مواطنون من فقيق المغرب و زواوة من القبائل ولكن جميع هؤلاء ، صهرهم الإسلام في بوثقة واحدة لا فرق بين الأمازيغي والعربي ، فإذا كان بعض الأمازغيين يتحدثون بلهجتهم الخاصة (الشلحة) فإنهم كانوا يعتبرونها مجرد لهجة إلى جانب اللغة الدارجة ، فلم يكونوا يعتبرونها رمزا لعرق يمتاز عن بقية الأعراق التي تتكون منها الأمة الجزائرية ، أو رمزا لجنس أصيل في مقابل جنس طارئ دخيل ، لقد كانوا يعتبرون أنفسهم عربا ارتبطوا روحيا بأرض بعث الله منها و من قومها نبيه الكريم ، و هذا هو تصورهم و فهمهم لمعنى العروبة ، كما أنهم ارتبطوا بالدولة الإسلامية أو الخلافة المركزية باعتبارها رمزا يجسد الإسلام ووحدة المسلمين .

لقد علق والدي صورة كبيرة في غرفة الضيوف و كان يقول لنا " هذه صورة لأحد الأتراك " ، و لم أكن أعرف سر هذه الصورة و مغزاها إلا حينما كبرت ، فلقد علمت أنها كانت صورة لآخر خليفة تركي ، و لقد استنتجت من هذا أن الخلافة الإسلامية حينما سقطت إنما سقطت من الناحية الرسمية لا غير ، لكن صورتها بقيت في أعماق شعور الفرد الجزائري ، و منها المواطن المشراوي ، لقد أراد الاستعمار أن يستغل وجود هذه العناصر ليستخدمها في التفرقة و إثارة النعرات و إحداث الفتن .

إن مدينة المشرية كما قلت سابقا كانت منطقة رعوية و زراعية ، و كان لها الاكتفاء الذاتي من الناحية الزراعية كالمواد الغذائية و الألبسة المصنوعة من الأصواف ،لقد كانت المرأة المشراوية تقوم في الصباح بعجن الخبز ، ثم تحلب الماعز أو الضأن أو البقر ، ثم تستخرج من الحليب اللبن و الزبدة ثم السمن ، كما أن المرأة الجزائرية كانت تصنع أو تنسج بنفسها الجلابة أو البرنوس و الخيدوس ، و هذه الملابس كلها تقوم مقام المعاطف عندنا اليوم ، كما أنها تقوم بتأثيث البيت بالزرابي و الحياك و الأفرشة و كل ما هو ضروري للبيت، و هكذا لم تكن هناك أي مادة مستوردة من الخارج ، لكن هذه الوضعية عندما تكون الحياة تسير سيرا طبيعيا ،أما إذا انحرفت أو إلتوت فإنها تسير سيرا آخر ، في الاتجاه المعاكس .
المصدر مجلة صدى الأقلام ...جمعية اقلام لترقية الابداع بالمشرية ....العدد 1