16‏/8‏/2013

الكتابة النسوية في الأدب الجزائري المعاصر ـــ بقلم : د.صالح مفقودة- الجزائر

تمهيد  :‏ما تزال "الكتابة النسوية" أو "الأدب النسوي" مصطلحاً غير ثابت ولا  مستقر بما يثيره من اعتراضات، وما يسجل حوله من تحفظات، وقد توقفت عنده  الناقدة العربية خالدة سعيد ـ بعمق ـ في كتابها: المرأة، التحرر، الإبداع؛

 ترى أن هذا المصطلح (شديد العمومية وشديد الغموض، وهو من التسميات الكثيرة التي تشيع بلا تدقيق... وإذا كانت عملية التسمية ترمي أساساً إلى التعريف والتصنيف وربما إلى التقويم، فإن هذه التسمية، على العكس، تبدأ بتغييب الدقة، وتشوش التصنيف وتستبعد التقويم، هذه التسمية تتضمن حكماً بالهامشية مقابل مركزية مفترضة)(1). هي مركزية الأدب الذكوري، أو ذلك المقابل لما يراد تسميت ه بالكتابة النسوية أو الأدب النسوي.‏
وهكذا يتجلى النفور من هذا المصطلح بسبب غموضه، وما ينضح به من شك وارتياب؛ تقول الأديبة لطيفة الزيات: (رفضت إدراج كتاباتي الإبداعية في باب الأدب النسائي، ودأبت على القول أدب أو لا أدب، فنّ أو لا فنّ؟ وما من أدب رجالي وآخر نسوي، ومر الزمن وكان أن نضجت وتعلمت أن الإقرار بالنديّة بين الرجل والمرأة يتضمن إقراراً بالاختلاف وأن تمييع نقاط الاختلاف لا يعني بالضرورة تفضيلا لجانب على الآخر، ولا تمييزا فنياً لجانب على الآخر)(2).‏
ومن هنا نقف على ضفاف الإشكالية التي يطرحها المصطلح، إشكالية مجتمع يقبل المرأة ويرفضها، وفي رفضه ينكر عليها ذاتيتها وتفردها واختلافها، الأمر الذي يؤثر في مكانة المرأة لصالح تثبيت مكانة الرجل. وواضح ما في هذا الموقف من التناقض والازدواجية والتعارض مع منطق يفترض التساوي في الواجبات، ويغض الطرف عن الحقوق. والحال إن أهم حقوق المرأة هو التعبير عن ذاتها وحقها في بلورة رؤيتها لذاتها عبر الإبداع( 3).‏
ولكن كيف لنا أن نثبت وجود أدب نسائي؟ وقبل ذلك علينا أن نلقي السؤال: ما هو الأدب النسائي، وهل هناك سمات تميزه عن الإبداع الذكوري؟ وهل يمكن لهذا الإبداع أن يحتل مكانة مساوية للإبداع الذكوري؟ أو على الأقل يقوم بخلخلة مركزية هذا الإبداع؟.‏
وعلى ذلك فإن وجود تعريف للأدب النسائي يعدّ مخاطرة، ولا يعني هذا أن نولي وجهنا عن مسألة وضع الأدب النسائي ومرجعيته، ومن ثمّ فإن العديد من الناقدات اللائي تعرضن للتعريف ينطلقن من التوافق مع رؤية المجتمع للمرأة التي تعتمد تقويض ثنائية أنثوي / ذكوري، أي خلخلة بنية الفكر السائد والمسيطر(4).‏
ولعل ما يعزز هذه النزعة يتمثل في ما تتضمنه تجربة المرأة من حياة فكرية وانفعالية متميزة من تلك التي يعايشها الرجل، بصفته ذكراً في مجتمع يتأسس على مركزية هي الذكورة، والهيمنة الذكورية، وذلك لسبب جوهري هو أن النساء لا ينظرن إلى الأشياء كما ينظر إليها الرجال، وتختلف أفكارهن ومشاعرهن إزاء ما هو مهمّ أو غير مهمّ(5).‏
على أنه ـ رغم هذا الاختلاف في النظر إلى الأمور ـ فإنه لا يؤثر في جوهر الكتابة، ولا يمس حقيقة التجربة سواء التي تكتبها المرأة أو تلك التي يجسدها الرجل، فالأدب هو الأدب كيف كان؛ بمعنى أنه ما يؤدب النفس والروح من خلال النُّبل والفضيلة والجمال, فتسمو الذات على ذاتها, وتسبح في فضاءات من الإبداع والتميز. وإن كان للأدب الذي يتوجه للمرأة من ملامح إلا أنه في النهاية يصب في بوتقة الإنجاز والإبداع, وينصهر هذا بذاك ليشكل الطوفان هرماً إبداعياً يصعب تفكيكه وفصله، والأصح أن نقول هذه الرواية تعنى بشؤون نسوية أو أمور رجالية أو هذه القصة أو هذه القصة أو هذه المقالة, وهكذا...(6).‏
ومن هذا المنزع وجد مصطلح "الأدب النسائي, أو النقد النسائي, طريقه إلى التجسّد, حيث بعد ثورة الشباب في فرنسا ـ وهي ثورة ثقافية تقدمية سنة 1968 بدأت مصطلحات "الأدب النسائي" و"النقد النسائي" تنتشر ب سرعة في الحركة النقدية الحديثة, وهي تعنى بالإجابة عن أسئلة تتصل كلها بوضع المرأة الاجتماعية والأدب, ودورها الإنساني, وقيمة ما تكتبه مبدعة أو ناقدة, ومن هذه الأسئلة على وجه التحديد: هل صورة المرأة صورة ملائمة في الأدب الذي يكتبه الرجال؟ وهل ثمة صلة بين القهر الاجتماعي الذي تعانيه المرأة ونوعها (أي كونها امرأة)؟‏
ولماذا يندر وجود كاتبات في تاريخ الأدب؟ وإذا كان ما قاله "رونالد بارت" في تعريف الأدب, من أنه يتجه إلى الخشونة ـ ليس أدباً, وهل لأدب المرأة ميزة خاصة فيما يتصل بتقاليد الكتابة"(7).‏
وهي أسئلة لم تتوقف, ولا أظنها تتوقف عن قريب حتى يستتبّ الأمر لهذا النوع من الكتابة, فيفرض نفسه على أرضية الواقع, أو يتبين كونه كتابة إبداعية لا تختلف عن أي كتابة بغضّ النظر عن جنس كاتبها.‏
ومنذ السبعينات ـ من القرن الماضي ـ صدرت صحف للأدب النسائي وكوّنت دور نشر " نسائية" في كل من "أمريكا" و"إنجلترا" و"فرنسا" و"ألمانيا" و"البرتغال" و"هولندا" و"الدانمارك", وحتى في "تايوان", ومعظم الكتابات "النسائية" تحمل طابعاً يسارياً تقدمياً, وهي تميل إلى توحيد هويتها مع الحركات الجديدة في المجال النقدي "كالبنيوية" و"ما بعد البنيوية" و"الحداثة" و"ما بعد الحداثة" و"الماركسية الجديدة"(8).‏
وإذا كان لنا أن نبحث عن جذور هذا النوع من الكتابة في الأدب العربي الحديث, فإننا نستنير بشهادة الدكتور محمد الربيعي في هذا الشأن حيث يقول: "وأودّ أن أذكر أنني في منتصف الستينات تقدمت برسالتي للدكتوراه إلى جامعة لندن عن أدب المرأة في مصر الحديثة, واقتضى عملي التحدّث إلى مجموعة كبيرة جداً من الكاتبات والناقدات ـ معظمهن لا زلن على قيد الحياة ـ ولم يكن الاتجاه "النسائي" في الأدب والنقد قد شاع في العالم شيوعه في هذه الأيام. وأذكر أنهن جميعاً ـ وبدون استثناء ـ تمسّكن بأنه لا يوجد شيء اسمه "أدب نسائي", وشيء اسمه "أدب رجالي", وإنما يوجد "أدب" ويوجد "نقد", وأعتقد أنهن كن يحتمين في ذلك بحائط الأدب العام والنقد العام, الذي كان ولا يزال "رجالياً" في عالمنا العربي. ولست أدري ما الذي يمكن أن تقوله الكاتبات الناقدات لدينا الآن, بعد أن ظهر للعالم كله أن هناك "أدباً نسائياً" و"نقداً نسائياً"(9).‏
وهو تساؤل سوف ترد الإجابة عنه من لدن الكاتبات فيما سيلي من البحث.‏
هل هناك أدب نسوي قبالة أدب ذكوري؟‏
إن طرح هذا السؤال يطرح الإشكالية التي كثيراً ما تقف إرادة التحديد أمامها حائرة. كيف يمكن لفعل الكتابة أن يحدد العلاقة بين المرأة ونتيجة الفعل؟‏
كيف تحضر المرأة وتغيب في زمن الكتابة باعتبارها حقلاً حكراً على الرجل؟ هل غياب اسم المرأة أو ندرته كاسم كاتب في التبادل الرمزي السائد, يعني أن الكتابة شيء مستعص أو غريب عن مجال جسد المرأة, وما هي طبيعة التوتر الذي يم كن أن توحي به واو العلاقة بين المرأة والكتابة؟(10).‏
إن أسئلة كهذه بقدر ما تحضر في الواقع, لا تخلو من محاكمة لهذا الواقع أو التاريخ, وبقدر ما ترمي إليه من رد اعتبار للمرأة, فإنها أيضاً لا تحلّها كلّية من المسؤولية؛ فمسؤولية الغياب ـ على الأقل ـ في الماضي.‏
إن هدف هذا البحث هو محاولة صياغة المرأة والكتابة في أشكالها وتعبيراتها المختلفة على اعتبار أن هذه العلاقة لا تقتصر فقط على حضور المرأة كعنصر فاعل في حقل الكتابة في شكلها المخطوط المادي, بل ترنو هذه المحاولة إلى الحديث عن المرأة في تمفصلاتها مع مسألة الجسد والحقيقة والرغبة والذكر.. وفعل الكتابة كامتداد وجودي ينجلي في الورق المكتوب كما يمكنه أن ينطبع على جسد أنثوي بالغ الشاعرية والإغراء(11).‏
إن الكتابة عن المرأة أو بالأحرى عن أدب المرأة هو (خلخلة مجموعة من البديهيات المترسخة في العقول والنفوس عبر الزم ن والتاريخ.. أو التي بدأت تترسّخ لدى بعض الناس من خلال صياغات خطابية تنطق بالانفصال عن الهيمنة الذكورية والتحرر العظيم من اللامساواة والتدجين. وهذه الخلخلة تنطلق من اعتبارات أن كل لغة يمكنها ألا تتوقف عن إفراز أضدادها. وكل خطاب ـ سواء كان موضوعه التحرر أو الهيمنة ـ لا يكف عن إنتاج نقائضه. لهذا نعتبر أن خطاب تحرر المرأة, سواء صدر من المرأة أو الرجل يتعين التعامل معه باحتراس شديد(12). مع معرفة أن سيادة لغة الرجل تقوم بدور أساسي في‏
قمع المرأة).‏
وإذا تقبلنا فكرة "فوكو" التي ترى أن ما هو "صواب" يعتمد على من يهيمن على الخطاب, فمن المعقول أن نسلم بأن سيادة خطاب الرجل أوقع المرأة في فخ (حقيقة) الذكر. وطبيعي ـ من هذا المنظور ـ أن تصارع الكاتبات هيمنة الرجال على اللغة بدل مجرد الانكسار في قوقعة الخطاب الأنثوي(13).‏
إن المرأة تلغي هذا من مجال الكتابة لأن ال تاريخ الذكوري يزرع فيها القناعة بضعفها وعدم قدرتها على الابتكار. وهذه البديهية تؤكدها كل النصوص, وتثبتها الوثائق والرموز. من هنا تبدأ المرأة بالابتعاد عن مجال الإبداع والكتابة لأنها تشعر بخوف لا مثيل له من هذا العالم السحري المرتب من طرف الرجل. إنه نظام موضوع ومؤطر حسب استراتيجية ذكورية معلومة. ومساهمة المرأة في هذا النظام, من خلال فعل الكتابة لا يمكنه أن يتم إلا بعد تقديم تضحيات لا حصر لها بحيث تعرف مسبقاً أن هذه التضحيات هي قدرها كالموت أو المرض أو الدورة الشهرية(14).‏
إن النظام الرمزي الذكوري السائد حين يسمح بإعلان كتابة المرأة لا ينطلق في ذلك من تقدير معين لقيمة ما تكتب وما تنتج بقدر ما يسعى إلى توريطها وإبرازها ككتابة ضعيفة لا تستطيع بها الالتحاق بمستوى كتابة الرجل وأن يعمل على إشعارها بأنها ناقصة, لا تبدع إذا كتبت, وبالتالي يغدو النظام الذكوري فخّاً لا حدود في إمكانية تسهيل الانتقال من إبداع المرأة(15). هذا في حال افتراض أن ما تكتبه المرأة أو ما ستكتبه هو كذلك يحمل سمات النقص وشارات الابتذال, وهو أيضاً ما لا يخلو منه الأدب الذكوري, هذا الذكر الذي يكابر ويسعى من خلال تسييج حرية المرأة, إلى فرض كتابته ككتابة عبقرية مطلقة, يستحيل أن تضاهيها كتابة المرأة. هنا يتوجب الإشارة إلى أن الأمر لا يتوجه للكتابة كأدب, ولكنه يتعلق بصراع قوى وبمسألة حرية. فالرغبة في اكتساح حرية كلية تستدعي إلغاء حرية الآخرين, على اعتبار أن الآخرين يشكلون عوائق تصطدم بها هذه الرغبة في الحرية الكيانية.‏
وهكذا, فبالنسبة للذكر تأكيده على اختلافه الجوهري مع المرأة يعني تأكيده على وعي في حالة قوة, شبه رباني, تأكيده على جوهر(16).‏
ومن ثم تعتمد الكتابة النسوية النظرة التعددية للإطاحة بسلطة المؤلف المطلقة باعتباره ذاتاً كلية الحضور ومهيمنة في العمل الأدبي, يصدر عنها الخطاب ويحيل إلى المعنى الكامن في "اللوجوس" أو العقل المنشئ وهو المؤلف في هذه الحالة, ومن ثم فإن سلطة المؤلف تكون مطلقة ونهائية, وتمثل هذه السلطة النظام الأبوي الذي يحتل الرجل ـ تماماً كالمؤلف ـ قمته, على حين يبقى القارئ ـ الم رأة في موقع أدنى, تترك له / لها دور التلقي السلبي(17).‏
وفي مقابل هذه النظرة التي تثبت رؤيا نهائية للعالم تقترن فيها الإيجابية بالذكورة, أو بالمؤلف المهيمن, كما تقترن السلبية بالأنوثة, أو بدور المتلقي السلبي, تطرح الكاتبات مفهوماً آخر للعالم ـ النص. ويقوم هذا المفهوم على تحدّي سلطة المؤلف عن طريق توزيع المنظور القصصي على عدد من الشخصيات تقدم كل منها وجهة نظر تجاه حدث بعينه. ومن ثم فإن القارئ يتلقى عدداً من وجهات النظر التي لا يدعي أحدها احتكار الحقيقة, ويجد القارئ نفسه أمام إمكانات غير محدودة لإنتاج المعنى قد تتعارض مع نوايا المؤلف لكنها تتطلب منه اشتراكاً فعّالاً في تفسير المعاني الصريحة والمعاني الضمنية وقراءة فجوات النص واختبار الفروض التي تطرحها الشخصيات ذات الخلفيات المتباينة, وهكذا يصل القارئ عن طريق المشاركة الإيجابية في إنتاج النص إلى مفهوم نسبي للحقيقة يتوزع على المناظر المتعددة التي يقدمها النص بصورة متكافئة.](18).‏
وهكذا يتبين من مشكلة النقد النسائي أن الرجال هم الذين يوجهونه. وإذا ما درسنا مقولبات النساء, والميل الجنسي لدى النقاد الذكور, والمساهمات المحدودة التي تقدمها النسا في التاريخ الأدبي, فإننا لن نتبين ما شعرت به النساء وعانته, بل مجرد ما اعتقد الرجال أنه وضع للنساء(19).‏
وهي النظرة التي يمكن اعتبارها مشكلة سياسية وصلتها الحركة النسائي الحديثة. وقد عبرت عنها الكاتبة "كيت ميلليت" Kate Millett في كتابها "السياسات الجنسية" (1970) حيث استخدمت مصطلح النظام الأبوي (دور الأب) لوصف سبب قمع النساء, قاصدة بذلك إلى أن النظام الأبوي يخضع الأنثى إلى الذكر, أو يعامل الأنثى بوصفها أدنى من الذكر, على نحو تتم معه ممارسة القوة ـ بكيفية مباشرة أو غير مباشرة ت للحجر على النساء في الحياة المنزلية والأسرية(20).‏
وتهاجم (ميلليت) وغيرها من ممثلي الحركة النسائية علماء الاجتماع, الذين يتناولون الصفات "الأنثوية" المكتسبة ثقافياً (كالسلبية وغيرها) بوصفها صفات طبيعية, وتعترف أن النساء لا يختلفن عن الرجال في الإبقاء على هذه الاتجاهات في المجالات النسائية, والأيديولوجيا العائلية, وترى أن أدوار "الجنس" المؤبدة في المجتمع قمعية, والخروج على هذه الأدوار من حيث العلاقة غير المتكافئة بين السيطرة والتبعية هو ما تسميه (ميلليت) "السياسات الجنسية"(21).‏
أسسه الفلسفية:‏
الملاحظ أن النظرية في المؤسسات الأكاديمية غالباً ما تكون ذكورية, بل عدائية, فهي الطليعة الصلبة المثقفة للدراسات الأدبية, وفضائل الرجال في الصرامة واقتحام الأغراض وثورة الطموح تجد مأواها في "النظرية" أكثر مما تجده في الفن الرقيق للتأويل النقدي(22).‏
ولقد فضحت الناقدات النسوية الموضوعية الماكرة للعلم الذكوري؛ فنظريات فرويد, تمثيلاً تعرضت للتقويض بسبب نزعتها الجنسية السمحة, بافتراضها أن الجنسية النسوية يشكلها حسدها للذكر على العضو الذكري(23).‏
والكثير من النقد النسوي يرغب في الإفلات من "الثواب والمحددات" النظرية ويود أن يطور خطاباً نسوياً لا يمكن إقرانه مفهومياً, بالانتماء إلى الموروث النظري المعروف (وربما بالتالي الذي أنتجه الذكور).‏
ومع ذلك فقد انجذبت الناقدات النسويات إلى أنماط النظريات ما بعد البنيوية عند "لاكان" و"ديريدا", ربما لأنهما يرفضان, في الحقيقة, أن يثبتا وجود سلطة ذكورية على الحقيقة(24).‏
ونظريات التحليل النفسي عن النزعات الغريزية تحديداً، كانت ذات فائدة للناقدات النسويات اللواتي حاولن أن يكشفن عن المقاومة التدميرية التي لا شكل لها عند بعض الكاتبات والناقدات من النسوة للقيم الأدبية التي يهيمن عليها الرجل، برغم أن بعض النسويات لم يمتنعن من استشارة الاستراتيجيات الممكنة للمقاومة الذكورية دون تنظير موسّع(25).‏
لقد وضعت (سيمون دي بوفوار) في كتابها (الجنس الآخر) (1949) وبوضوح بالغ القضايا الأساسية في النقد النسوي المعاصر. حين تحاول امرأة أن تعرِّف بنفسها فإنها تبدأ بالقول: "إنني امرأة" وما من رجل يفعل ذلك. إن هذه الواقعة تكشف "غياب التماثل" بين مصطلحي "المذكر" و"المؤنث". فالرجل هو الذي يمثّل الإنسان وليس المرأة، ويعود هذا الانحياز في أصله إلى "العهد القديم" فبتشتت النساء بين الرجال، لم تمتلك النساء تاريخاً منفصلاً، ولا سيادة طبيعية. لم يتّحدن مثلما فعلت الجماعات المضطهدة الأخرى، ووسمت المرأة بالعلاقة المنكفئة مع الرجل، فهو "الواحد" وهي "الآخر". وضمنت هيمنة الرجال مناخاً أيديولوجيا من الإذعان: لقد قاتل المشرّعون، والرهبان، والفلاسفة، والكتّاب، والعلماء لكي يوضحوا أن الموقع الثاني للمرأة اختارته السماء، وباركته الأرض(26).‏
وتوثق (دي بوفوار) موضوع جدلها باطلاع واسع؛ لقد جعلت المرأة كائناً ناقصاً، وتضاعف اضطهادها باعتقاد الرجال أن النساء ناقصات بالطبيعة. ولا تحظى فكرة "المساواة" المجردة إلا بالولاء الشفاهي، أما متطلبا ت المساواة الحقيقية، فإنها تقاوم في العادة، فالنساء أنفسهن، وليس الرجل المتعاطفون معهن، في أفضل المواقف لتقدير الإمكانات الوجودية الأصلية للرجولة(27).‏
مقاصده وأهدافه:‏
"الكتابة نظرة للعالم وطريقة حضور فيه"(28) واختيار المرأة للكتابة يعني رغبتها في أن تكون، وأن توجد، وتحضر بالفعل وبالقوة. وتحقق ما يمكن اعتباره تجاوزاً لوضعها الحالي، "وهكذا تصبح الكتابة نوعاً من الخلاص، ويصبح الاستمرار فيها، رغم ما يتضمنه من عذاب وضنىً نوعاً من توسيع دائرة الخلاص. وهكذا أيضاً تشرّع الكتابة لنفسها، تجد كل مبررات وجودها وتنهض"(29).‏
إنه وضع المرأة وواقع الكتابة؛ ففي عالم غريب وحاضر غريب ومستقبل يبدو غريباً لم تجد المرأة لنفسها موطئ قدم إلا بالكتابة، ترتاد لغة الغرابة لتدرأ الصدأ عن اللغة حاملة كآبتها التي لا تنفتح إلا في غابة الكتابة، حيث (يقوم العمل الفني بتخفيف توتر النفس البشرية العميقة)(30).‏
ورغم أن الكتابة لا تشفي، بل تصون... فإن الكتابة هي آلية دفاع بلا ريب، في أتم الكمال أكثر من غيرها، لكنها ليست أكثر فاعلية(31).‏
ورغم ذلك ففيها ـ أي الكتابة ـ وحدها يجد الفنان "متنفّساً" لأوجاعه الداخلية التي يعيشها بشكل عميق كما في حال أغلبية الناس(32).‏
إن كل كاتب أدبي إنما يكتب ليخلق تعويضاً عن غربته، أو علالة لما يكابد من شعور بالاغتراب(33). ليس ثمة كتابة أو أدب ينشأ من فراغ أو ينبع من عدم؛ إن فعل الإبداع يكون أو يتكون نتيجة مطلب ضروري لحسم تناقض ما حتى ولو كان هذا الحسم يقتضي عنفاً معيّناً.‏
إن المرأة كثيراً ما تتخذ من الكتابة وسيلة لحلّ تناقضاتها مع الرجل أو الأم أو المجتمع الذكوري بشكل عام. هي لا تكتب من أجل السيطرة على الرجل كما يفعل هو بواسطة القانون والأدب، لأنها حين تريد أن تسيطر عليه تستعمل كتابة من نوع آخر لا يفقه الرجل تفكيك رموزه بسهولة. فهي ترمي من الكتابة والكلام إلى تفجير كل شروخ جسدها وتموّجاته. ومع ذلك تبقى كتابتها بعيدة كل البعد عن رغبتها العارمة في الإحاطة باللغة الضرورية لصياغة رغبتها في الكتابة، لمحاولة الرد على القهر الوجودي العام الذي تمارسه على العلاقات الاجتماعية والأخلاقية والنفسية الذكورية(34).‏
هذا القهر الذي لا يتمثل في المحظورات التي تواجه المرأة في الخارج فحسب، وإنما هي (تدرك أن بعضها ما يزال في أعماق المرأة نفسها، وقد توارثت نوعاً من الاستخفاء والتواري، فضلاً عن عوامل الخوف المتراكمة، وطلب السلامة، والبعد عن مخاطر المواجهة..‏
وتنطلق المرأة الكاتبة في هذه الحالة من موقف مبدئي قوامه أن المرأة إنسان كامل الإرادة من حقه الاختيار وعليه تحمّل تبعة اختياره.‏
وانطلاقاً من هذا الموقف المبدئي تقاوم الشخصية النسائية (...) تثبيت أشكال الهوية النسائية المفروضة من الخارج. وقد تظهر هذه المقاومة في الإصرار على الكتابة برغم ما يفرض على المرأة من حصار اجتماعي ونفسي)(35).‏
فالكتابة. إذن، تفجير للمكبوت والمخفي، فالمرأة من خلال مختلف أشكال كتابتها الجسدية والرمزية تستدعي المكبوت المتراكم عبر الزمن لتعلنه في حوارها ـ صراعها ـ مع الرجل، خصوصاً حين تقترن هذه الكتابة مع الحركات النسوية Féministes(36).‏
وفي حميّا هذا الصراع، فإن هناك نظرة تتبنّاها واحدة من دارسات علم اجتماع اللغة هي (روبين ليكوف) Robin Lakoff التي ترى أن لغة النساء أدنى بالفعل من لغة الرجال، لأنها تتضمن أنماط "ضعف" و"عدم اليقين" وتركز على "التافه" و"الطائش" و"الهازل"، وتؤكد الاستجابة الانفعالية الذاتية.‏
وتذهب (ليكوف) إلى أن خطاب الرجال "أقوى" . ويجب أن تتبناه النساء إذا رغبن في تحقيق المساواة الاجتماعية بالرجال.‏
وأكثر الراديكاليات من ممثلات الحركة النسائية يرين أن المرأة تواجه عملية غسيل للمخ بواسطة هذا النمط من الأيديولوجيا الأبوية (البطريركية) التي تنتج قوالب مكرورة عن رجال أقوياء ونساء ضعيفات(37).‏
والواقع أننا (نصل عن طريق اللغة إلى وعي بأن هناك هوية ثابتة تفرض علينا داخل إطار النظام الرمزي، لكن الدراسات النفسية اللغوية أثبتت أن اللغة لا يمكن أن تشكل الرغبة اللاواعية تشكيلاً كاملاً. ومن هذا تظهر أهمية استنطاق اللاوعي، حيث تنهار الدفاعات العقلانية المحكمة التي يتحصّن خلفها المعنى الاجتماعي التقليدي القائم على تثبيت أشكال الهوية المفروضة بواسطة اللغة)(38).‏
وهناك أيضاً بعض كاتبات الحركة النسائية ممن يناصبن النزعة البيولوجية "Biologisme" العداء بواسطة إقامة صلة تربط بين "الأنثى" والعملي ات التي تميل إلى تقويض سلطة خطاب "الذكر" فينظرن إلى كل ما يشجع أو يستسهل اللعب الحر للمعاني ويمنع "الانغلاق" بوصفه "أنثى" على نحو تغدو معه النزعة الجنسية الأنثوية ثورية تدميرية متغايرة الخواص "منفتحة".‏
هذا النهج أقل تضمناً لحظر نزعة التقوقع والقولبة، لأنه يرفض تحديد النزعة الأنثوية، ويرى أنه إذا كان هناك مبدأ أنثوي، فإنه ليس سوى البقاء خارج تعريف الذكر للأنثى(39).‏
ويمكن قسمة النقد النسائي على نوعين متميزين: يهتم النمط الأول بالمرأة بوصفها قارئة Woman as reader، بالمرأة من حيث هي مستهلك للأدب الذي ينتجه الرجال، وبالطريقة التي تغير فيها فرضية القارئة الأنثى إدراكنا لنص ما، تنبهنا على مغزى أنظمته الشفرية الجنسية. وهو ما يمكن تسميته بالنقد النسائي، وهو على غرار الأضرب الأخرى للنقد تحقيق مبرر تاريخياً يتفحص الافتراضات الأيديولوجية للظاهرات الأدبية. وتتضمن موضوعاته صور النساء ومقولباتهن في الأدب، الأشياء المغفلة والتصورات الخاطئة عن النساء في النقد، والانشقاقات في التاريخ الأدبي الذي يبنيه الذكور، ويهتم أيضاً باستغلال الجمهور الأنثوي والعبث به، خاصة في الثقافة الشعبية والسينما، وبتحليل المرأة ـ بوصفها ـ علامة في الأنظمة السيميائية.‏
أما النمط الثاني للنقد النسائي فيهتم بـ "المرأة ـ بوصفها ـ كاتبة"، بالمرأة من حيث هي منتج للمعنى النصي، لتاريخ الأدب الذي تنتجه النساء وموضوعاته وأنواعه وبناه، وتنطوي موضوعاته على المحركات النفسية للإبداع الأنثوي، وعالم اللغة ومسألة اللغة الأنثوية، ومسار السيرة الأدبية الأنثوية الفردية أو الجماعية، والتاريخ الأدبي، ودراسات لبعض الكتّاب والأعمال طبعاً(40).‏
وهنا يحسن الاستشهاد بمقال للكاتبة (هيلين سيكو) المعنون بـ "ضحكة الميدوزا" (1975) باعتباره تأسيساً لمفهوم الكتابة الأنثوية حيث تقول: "الإِبداع الأنثوي لا يمكن تنظيره أو تضمينه أو تشفيره، وهذا لا يعني أنه ليس موجوداً، ولكنه سوف يتخطى دائماً الخطاب الذي يجدد المنطق الذكوري"(41).‏
والملاحظ هنا أن الكاتبة "تدعو إلى الخروج من منطقة السيطرة والقمع والهيمنة الفلسفية فهي كتابة تعمل في الثغرات In Between لتعاين التفاعل بين المماثل والمغاير، وهي العملية التي من دونها لا يعيش شيء "التفاعل هنا يهدف إلى حركة مستمرة بين تبادل الذوات"(42).‏
وثمة جهود أخرى قامت بها (لوسي أريجاري) اعتمدت على تحليل الخطاب الفلسفي الغربي؛ "ففي رسالة بعنوان: مرآة المرأة الأخرى، وتوصلت (أريجاري) إلى أن المرأة في هذا الخطاب ليست إلا مرآة عاكسة للذكورية، وبذلك تحرم المرأة من حق التمثيل الذاتي Self Representation أي أن الخطاب الأبوي يضع المرأة خارج التمثيل، فتصير المرأة هي الغياب والسلبية والقارة السوداء، وفي أحسن الأحوال رجل ليس كاملاً. الأمر الذي يؤدي بالمرأة إلى طريقين لا ثالث لهما، الأول أن تطرح منظورها الذاتي عن نفسها، وفي هذه الحالة لن يسمع صوتها إلا على أن ضجة تقع خارج نطاق الخطاب الذكوري.‏
والثاني أن تقوم المرأة بإعادة تمثيل الدور المرسوم لها باعتبارها مقلدة ومحاكية للرجل، فيؤدي الأمر إلى وجود مشوّه لا يعبّر عن حقيقة المرأة(43).‏
وتوضح (أريجاري) موقفها الذي تتبنّاه ومقصدها الذي ترمي إليه بقولها: "يجب على النساء أن يظهرن أنه من الممكن للجانب الأنثوي تجاوز خلخلة المنطق الذكوري"(44). وتضيف: "إن المرأة لا يمكنها أن تكتب من داخل هذا السياق محاكية الخطابي الأبوي، وعندئذ يمكن قراءة الأنثوي من المساحات الفارغة Bland Spaces"(45) وهو ما أطلقت عليه (هيلين سيكو) الثغرات In Between.‏
وكما ترى "فإن القصدية من محاكاة الخطاب الأبوي هي تخريبه من الداخل، وهذا التخريب لا يهدف إلى انتزاع قوة ما، فالمشكلة التي يطرحها الفكر النسوي ليست فقط رفض ممارسة القوة، ولكن أيضاً كيفية تغير القوى السائدة، مما يؤدي إلى تغيير مفهوم القوة في حد ذاته(46).‏
وفي حين أن النقد العلمي يكافح لتطهير نفسه من الذاتي، يكون النقد النسائي مستعداً لتأكيد سلطة التجربة The Authority of Experience. إن تجربة المرأة يمكن أن تتوارى بسهولة، تغدو خرساء وباطلة وغير مرئية، تضيع في الرسوم التخطيطية لدى البنيوي أو الصراع الطبقي لدى الماركسيين. التجربة ليست انفعالاً؛ وعلينا أن نحتج الآن مثلما هي الحال في القرن التاسع عشر على مساواة المؤنث باللاعقلاني، لكنه علينا أن نعترف أيضاً بأن الأسئلة التي يحتاج معظمنا إلى أن يسألها تمضي إلى أبعد من تلك التي يستطيع العلم أن يجيب عنها، علينا أن نبحث عن الرسائل المقموعة للنساء في التاريخ، وفي علم الإنسان Anthropology، وفي علم النفس، وفي أنفسنا، قبل أن يكون في مقدورنا تحديد موقع المؤنث الذي لم يُقل، بطريقة (بيبر ماشيري)، بتفحص سراديب النص الأنثوي(47).‏
تجلياته وتمظهراته:‏
إن الكثير من الأدب الغربي يعتمد على سلسلة من الصور الثابتة للنساء، المقولبات. هذه الأشكا ل التي أضفي عليها طابع مادي، والقليلة إلى حد مدهش في عدها، تكرر مرة تلو الأخرى في قدر كبير من الأدب الغربي، وتتضمن الصور التي أضفي عليها الطابع الموضوعي شيئاً واحداً مشتركاً في أية حال؛ إنها تحدد المرأة بقدر ارتباطها بمصالح الرجال أو خدمتها أو معارضتها لها(48).‏
وتميل هذه المقولبات في التقليد الغربي إلى الانقسام إلى فئتين، تعكسن الثنائية الثنوية Maniceistic المستوطنة في النظرية الغربية إلى العالم. ترمز المقولبات الأنثوية إما إلى الروحي أو المادي، الخير أو الشر، فمريم عليها السلام أم السيد المسيح صارت مع الزمن تمثل الحد الأقصى في الخيرية الروحية. وحواء، زوج آدم هي الأكثر شؤماً في مادية الشر(49).‏
وتحت فئة مقولبات المرأة الخيرة أي أولئك اللاتي يخدمن مصالح البطل هناك المرأة الصبور، والأم الشهيدة، والسيدة. وفي الفئة السيئة أو الشريرة هنا المنحرفات اللائي يرفضن أو لا يخدمن كما ينبغي الرجل أو مصالحه: المرأة العانس طيلة حياتها، الحيزبون/ المساح قة، الزوجة/ الأم السليطة أو المستبدة. إن أعمالاً مختلفة، تعد روائع ممتازة في التقليد الغربي تعتمد هذه المقولبات البسيطة للمرأة..(50).‏
وحتى الأعمال ذات الوزن الكبير في التقليد الغربي ـ الأوديسة ـ والكوميديا، وفاوست، لا تقدم "الجزء الداخلي" من تجربة المرأة، نتعلم قليلاً، إن تعلمنا أي شيء عن الاستجابات الشخصية للنساء إزاء الأحداث، وهي مجرد أدوات لنماء البطل الذكر ونجاته.‏
النساء آخر Other بمعنى هذا التعبير عند (سيمون دي بوفوار)، ولذلك فإن هذا الأدب ينبغي أن يبقى غريباً عن القارئة الأنثى التي تقرأ بوصفها امرأة(51).‏
والنقد النسائي أخلاقي لأنه يرى أن إحدى المعضلات الأساسية في الأدب الغربي أن النساء في مقدار كبير منه لسن مخلوقات إنسانية، مراكز للوعي، إنهن أشياء، تستخدم في تسهيل مشاريع الرجال أو البرهنة عليها أو التخليص من أخطائها، وتعتمد مشاريع التخليص ال غربية دائماً تقريباً على امرأة ملخصة. ومن جهة أخرى فإن النساء في بعض الأدب الغربي، يكنّ أشياء، كباش الفداء، لكثير من الوحشية والشر. إن كثيراً من الفكر والأدب الغربيين فشل في الإمساك بزمام مشكلة الشر، لأنه يلقي الشر بيسر على المرأة، أو على آخر مميز كاليهودي، أو الزنجي...(52).‏
ويغدو النقد النسائي سياسياً حين يؤكد أن الأدب والمناهج الدراسية ومعايير الحكم النقدي ينبغي أن تغير، بحيث لا يظل الأدب بوصفه دعاوة تعزز أيديولوجيا الجنس. ويعترف الناقد النسائي أن الأدب عنصر مشارك مهم في جو أخلاقي يحط فيه من قدر النساء(53).‏
ومن ثمّ فإنه يتوجب علينا (أن ندرك أن الكتابة النسوية ليست هي المشاعر المكبوتة بقدر ما هي تمثيل المكبوت، فالأدب الذي يسدل الستائر لا ينتج أدباً ـ والتعبير لفرجينيا وولف ـ) يتوجب علينا ألا نخجل من التعبير عن عقولنا وأجسادنا، وحينما نقول أجسادنا لا نعني أبداً ما يثير الغرائز وما يصدم الإحساس والشعور أو يخدش الحياء، وإن كان هذا التعبي ر مطاطياً وغير محدود، لكن المقصود بالتعبير عن أجسادنا أن نقوّض كل الحواجز ونهدم التراتبية، فالجسد هو الذاكرة والاتصال وهو المتكلم المميز للحيز المكاني المعين(54).‏
رائدات الكتابة النسوية في الأدب الغربي:‏
إن المتأمل في الكتابات النسوية الغربية، يمكن له رصدها من خلال ما كتب عنها في مختلف الأقطار الغربية، وعبر ما تقسم إليه من أطوار. ومن بين الكتب التي تتناول الكتابات النسوية نجد كتاب (إيلين شوالتر) المعنون بـ "أدبهن المستقبل" (1977) حيث يتفحص هذا الكتاب (الروائيات البريطانيات منذ الأخوات برونتي من وجهة نظر تجربة النساء. وتستخلص أنه بينما لا يوجد جنس نسوي ثابت، أو خيال نسوي فطري، فإن هناك فرقاً عميقاً بين كتابة النساء وكتابة الرجال، وإن تراثاً بكامله من الكتابة قد أهمله النقاد الذكور: "إن القارة الضائعة للموروث النسوي قد طلعت فجأة مثل الأطلنطس من بحر الأدب الإنكليزي")(55).‏
وتقسم الكاتبة المذكورة هذا الموروث من الكتابات النسوية إلى ثلاثة أطوار:‏
الأول: هو الطور المؤنث feminine (1840 ـ 1880) ويتضمن إليزابيت غاسكل وجورج إليوت. كانت الكاتبات يقلدن ويمتصصن المعايير الجمالية الذكورية المهيمنة، التي كانت تتطلب من الكاتبات أن يبقين نساء محتشمات. وكانت الحلقة العائلية والاجتماعية المباشرة أبرز وجوه عملهن. كنّ يعانين من الإحساس من ذنب الالتزام الإنساني بالتأليف، ويقبلن ببعض القيود في التعبير، متجنبات الفظاظة والمجون)(56).‏
(والسمة المميزة لهذه المرحلة الاسم الذكري المستعار الذي دخل بريطانيا في أربعينيات القرن التاسع عشر، وتميز قومي للنساء الإنكليزيات الكاتبات.. أما المحتوى النسائي للفن المؤنث فغير مباشر على نحو نموذجي، ومحرّف، وميّال إلى السخرية، ومدمّر، وعلى المرء أن يقرأه بين السطور، في الإمكانيات المفتقدة للنص)(57).‏
الثاني: يشمل الطور "النسوي" Feminist (1880 ـ 1920) كاتبات مثل إليزابيت روبنز، وأوليف شراينر. وفيه طالبت النسوة الراديكاليات بيوتوبيات أمزونية منفصلة، ومساواة تعطي للمرأة الحق في الاقتراع والتصويت)(58).‏
وبذلك (تتمكن النساء تاريخياً من رفض الأوضاع التكليفية للأنوثة واستخدام الأدب في تمثيل محن الأنوثة المظلومة...)(59).‏
الطور الثالث: هو الطور الأنثوي Female (1920 فصاعداً). ورث خصائص الطورين السابقين، وطور فكرة الكتابة النسوية والتجربة النسوية المتميزتين. وكانت ريبيكا ويست، وكاترين مانسفيلد، ودوروثي ريتشاردسن أهم الروائيات النسويات في هذا الطور ـ على حسب ما تقوله (شوالتر)(60).‏
وفي هذا الطور ـ للكتابة النسوية ـ (ترفض النساء المحاكاة والمعارضة معاً ـ وهما شكلان من التبعية ـ ويلتفتن بدلاً من ذلك إلى التجربة الأنثوية الشكلية من مثل دوروثي ريت شاردسون وفرجينيا وولف، بالتفكير بلغة الجمل الذكرية والأنثوية، ويقسمن أعمالهن على الصحافة "الذكرية" والروايات "الأنثوية"، ويعدن تحديد التجربة الخارجية والداخلية ويضفين عليها طابعاً جنسياً...)(61).‏
وفي الوقت الذي كتب فيه جويس وبروست روايات طويلة عن الوعي الذاتي، كرست "ريتشاردسن" روايتها الطويلة (الحج) عن الوعي النسوي. وتستبق نظراتها عن الكتابة النظرية النسوية الحديثة. وكانت تحابي نوعاً من التقبل السلبي، أو التلقي المتعدد الذي يرفض وجهات النظر والأفكار المحددة التي كانت تسميها "الأشياء الذكورية".‏
تقول (شوالتر) إنها "بررت عقلياً مشكلة تدفقاتها العديمة الشكل" بصياغة نظرية ترى في اللاشكل التعبير الطبيعي عن الهوية النسوية، وترى في النمط السائد العلامة على الواحدية الذكورية. لقد حاولت، وبوعي، أن تنتج جملاً محذوفة ومجزأة لكي تجعلنا نشعر بما تعده شكل العقلية النسوية ونسيجها)(62).‏
وفي مقالها (النقد النسوي في البرية) تحدد (لين شوالتر) أربعة مداخل هي: البيولوجي واللغوي، والنفسي، والثقافي، وتؤكد على أهمية المدخل الثقافي الذي يجمع المداخل الثلاثة، فالنساء تمثل مجموعة صامتة بالنسبة لما يمثله الرجال "المجموعة المهيمنة"، تطرح المجموعتان أفكاراً ومعتقدات على مستوى اللاوعي، غير أن المجموعة المهيمنة تسيطر على الأشكال والتراكيب التي يعبر عنها الوعي نفسه، وبذلك يتوجب على المجموعة الصامتة أن تعبر عن معتقداتها من خلال القنوات التي تسمح بها المجموعة المهيمنة؛ فالمرأة هنا لا تعبر عن ذاتها إلا من خلال الطقوس والفن والخبرات الحياتية الخاصة بالمرأة والمختلفة تماماً عن خبرات الرجل، وتسمى هذه المنطقة عند أردنر "المنطقة البرية" وهي تمثل المنطقة التي تقع فيها خبرات الرجل، لكن في منطقة الوعي، لا يوجد مماثل للمرأة، فالوعي كله يقع في منطقة الهيمنة الذكورية)(63).‏
ويمكن إضافة أنه بعد (فرجينيا وولف) (تدخل الكتاب القصصية النسوية صراحة جديدة في الجنس، ولاسيما جيان رايز، فقد شعر جيل جديد من الن ساء الجامعيات المثقفات بحاجة المرأة إلى التعبير عن عدم رضاها، فظهرت أسماء مثل ا.س. بيات، ومرغريت درابل، وكرستين بورك ـ روس، وبريجيد بروفي. وفي أوائل السبعينيات حصل عدول نحو نبرة أكثر غضباً في روايات بنيلوب مورتيمر، وسوريل سبارك، ودوريس لسنغ)(64).‏
الكتابة النسوية في الأدب العربي المعاصر:‏
وكما في الثقافة والفكر الغربيين، فقد شاع مصطلح الكتابة النسوية والكتابة الأنثوية في الحياة الثقافية العربية خلال العشرين عاماً الماضية وتمخضت عن ذلك مناقشات حول "مفهوم الكتابة النسوية" وهل هناك كتابة نسوية وأخرى ذكورية؟ بمعنى هل يختلف الإبداع النسائي عن إبداع الرجل؟ وكما هي الحال فإن المناقشات أدت إلى وجود فريقين، مؤيد ومعارض(65).‏
والحقيقة أن القضية حينما أثيرت في أوساطنا الثقافية لم تأخذ الاتجاه الصحيح، إنها لم تحظ باهتمام نقدي جاد، يقوم بتأصيل المصطلح في الثقافة العربية مما أدى إلى وجود عوائق جمة أحاطت بالمصطلح، فالكاتبات ينزعجن تماماً من وصف إبداعهن بأنه أدب "نسائي" ظناً منهن أنه أدب يحمل هموم وعالم المرأة الضيق(66).‏
وفي مقال زينب العسال، نشر في مجلة القاهرة بعنوان "حديث العورة وامتلاك الوعي" بينت الكاتبة مدى اختلاط المفاهيم التي رافقت هذا المصطلح من خلال تفسير ورؤية المبدعات لمفهوم الكتابة النسائية، ومدى الاضطراب السائد في إجابتهن، فالبعض منهن اعتبره مفهوماً قاصراً جداً عن استيعاب إبداع المرأة الذي وصف بأنه لا يعبر عن المرأة بحسب(67).‏
تقول (مي التلمساني): (لا يعجبني أن يندرج عملي في سياق كتابات المرأة، لأن الساحة الأدبية في مصر الآن نحتفي بأية كتابة لمجرد أن صاحبتها امرأة، وفي هذا تكريس للفصل بين الرجل والمرأة وانتقاص للإبداع نفسه. بينما ترى أخريات (هدى جاد، سعاد شلش، إحسان كمال ووفية خيري) أن خير من تحدث عن المرأة كان (إحسان عبد القدوس)(68).‏
إن الإشكالية التي يثيرها المصطلح تكمن في كلمة "نسائي" التي لها دلالات مشحونة بالمفهوم الحريمي الاحتقاري، وهذا ما يدفع المبدعات إلى النفور منه على حساب هويتهن فيسقطن بسبب ذلك في استلاب الفهم الذكوري(69).‏
وقد ظلت كلمة نسوي تحمل دلالات التعصب للنساء على الرجل ومحاولة نفيه، وارتباط هذا المصطلح بالحرية النسوية النشطة في الغرب في ستينيات القرن الفائت، زاد من صعوبة التعامل معه وبالتالي تقبله": حيث إن الخصوصية الثقافية الغربية والمنتجة للمصطلح لا تتلاءم كلية مع الخصوصية الشديدة للمرأة العربية(70).‏
هناك عدد من الدراسات فيها عرض جيد لمختلف التصورات والاجتهادات حول الكتابة النسائية أو الأدب النسائي، منها دراسة رشيدة بنمسعود "استراتيجية الكتابة النسائية". مجلة عالم الفكر، المجلد 21/العدد 1 يوليو أغسطس، سبتمبر 1991. وكذا دراسة نبيلة شعبان "الرواية النسائية العربية، مجلة مواقف عدد 70 ـ 71 شتاء ربيع 19 93 وأيضاً مقالة أساسية لمنى أبو سنة، "إشكالية الإبداع في الأدب النسائي" مجلة إبداع (القاهرة) العدد1، يناير 1993.‏
وكذا دراسة أخرى للكاتبة نفسها بعنوان "التراث المكبوت في أدب المرأة" تتحدث عن الأدب النسوي فتحدده بأنه: (يمثل الأدب الذي تكتبه المرأة في تصوري استنطاقاً لجانب من المسكوت عنه في الثقافة العربية، وهو الموقف الإيجابي للمرأة ومن المرأة)(72).‏
ثم تتطرق الكاتبة إلى التراث الأدبي فتنعته بأنه (يغفل في كثير من الأحيان النظرة الإيجابية للمرأة ويقدمها إما بصورة شبحية هامشية، أو في أنماط متكررة، تتراوح بين النموذج الأعلى للملاك والشيطان، تنسب إليها صفات الأم المقدسة، نموذج الطهارة والنقاء الكلي من جانب أو ينسب إليها صفات نمطية أخرى كالابتذال والتهافت على المتع الحسية والاتصاف بالمكر والخداع والغموض من جانب آخر)(73).‏
وبعد الإشارة إلى استثناءات طفيفة كانت فيها صور المرأة إيجابية في التراث الأدبي مثل "حكاية الجارية تودد" في ألف ليلة وليلة، و"الأميرة ذات الهمة" في الملحمة الشعبية، تؤكد اعتدال عثمان أن (الخطاب المسكوت عنه Discourse Suppressed لا يقل أهمية عن الخطاب المعبر عنه) Discourse Expressed، ويرجع ذلك إلى أن المسكوت عنه يمثل فجوات مظلمة في التاريخ الأدبي، يتم إغفالها عمداً من أجل التوصل إلى مجموعة من القيم والمقاييس، تثبت بوصفها حقيقة نهائية، وتوظف لتدعيم وضع قائم، ونظام رمزي بعينه، بصرف النظر عن التناقض داخل هذا الوضع أو ذلك النظام ذاته)(74).‏
ومن بين الدراسات التي تناولت موضوع المرأة دراسة د. عفيف فراج "صورة البطلة في أدب المرأة. جدلية الجسد الطبيعي والعقل الاجتماعي" ضمن مجلة الفكر المعاصر عدد 34 ربيع 1985(75).‏
واحتفاءً بالكتابات النسائية نجد الكاتبة (إيمان القاضي) في كتابها "الرواية النسوية في بلاد الشام.. السمات النفسية والفنية 1950 ـ 1985)، تهتم بالروايات الفلسطينية أو ذات الموضوع الفلسطيني التي أظهرت مفهوماً ناضجاً لحرية المرأة" وإن كانت تسجل أننا لا نلتقي بنماذج كثيرة بهذا المعنى نظراً لهيمنة صورة المرأة النمطية (البيت، الزوج، الأولاد...) ومن ثم تسوق بعض الأسماء الروائية النسائية التي تعتبر رؤيتها للمرأة نموذجية، وفي مقدمتهن تدرج اسم سحر خليفة(76).‏
وفي خاتمة دراستها تعود لتسجل أنه "على الرغم من الملاحظات السابقة بشأن الروايات ذات البنية التقليدية فإن هناك بعض الأعمال المتفوقة التي تدل على نضج كاتباتها وموهبتهن وقدرتهن على الخلق والإبداع، ومشاركتهن النشطة في إثراء الفن الروائي العربي..)(77).‏
وفي نفس السياق نقرأ في شهادة للروائية الفلسطينية الأخرى (ليانة بدر) حول الكتابة النسائية الفلسطينية أن "سحر خليفة عبرت في رواياتها عن المفاصل الرئيسية في صراع الشعب ضد الاحتلال. وتحكي خليفة في رواياتها صراع النساء ضد القهر الاجتماعي المتمثل في الأعراف القديمة التي تميز بين الذكر والأنثى وتجعل من المرأة أضح ية على مذبح القيم التقليدية التي تعاملها بدونية وتمييز"(78).‏
وبذلك تكون الكاتبة العربية قد حرصت على الربط بين تجسيد الوعي الداخلي للشخصية النسائية وقضايا الوطن والمجتمع(79).‏
كما يتجلى ذلك في رواية (الباب المفتوح) للطيفة الزيات، حيث (يتقاطع النمو العاطفي والنفسي والفكري للشخصية النسائية الرئيسية مع الحركة الوطنية في مصر إبان الخمسينيات.‏
وفي رواية أخرى هي "حكاية زهرة، لحنان الشيخ، نجد مثالاً آخر لتجسيد وعي المرأة واقتران هذا الوعي بالحرب الأهلية في لبنان.."(80).‏
ولعلنا في هذا المقام نستأنس بشهادة النقاد المغربي "حميد لحمداني" على واقع الكتابة النسوية العربية؛ (لقد كنا أميل... إلى اعتبار الكتابة النسائية لا تزال أسيرة هموم الذات... إلا أن ذلك لا يعني أن الكتابة السردية النسائية المعاصرة لم تكن قادرة على تخطي الذات إلى اكتشاف مناطق العالم الرحب)(81).‏
وهو ما يسمح لنا بالذهاب بعيداً في هذا المضمار، من أن الرواية لدى بعض الروائيات العربيات قد صارت بمثابة ثورة داخل الثورة، كما نلمسه في روايتي أحلام مستغانمي، "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس".‏
أما د. فيحاء قاسم عبد الهادي، الباحث الفلسطينية، فهي ترى أننا نقرأ وعي المرأة وتطورها من خلال ما كتبته المرأة الفلسطينية،وفي تقديمها لكتابة سحر خليفة خاصة روايتها "عبّاد الشمس" يتبدى تقريرها لنماذج الشخصية النسائية التي تشيدها الكاتبة لالتقاط عناصر التناقض التي يمتلئ بها الواقع الفلسطيني(82).‏
وتقف هذه الناقدة عند نموذج "سعدية" في الرواية أحد نماذج الشخصيات في كتابة سحر خليفة، لتحتفي على الخصوص بمسار تطورها على مستوى الوعي والتجربة، "فمن إنسانة جاهلة بسيطة تعتمد على ال زوج وتنتظره إلى إنسانة عاملة مكافحة، تتطور من إنسانة ترتعد أمام مشكلة إلى إنسانة قادرة على الوقوف أمام الصعاب ومجابهتها(83).‏
الكتابة النسوية في الأدب الجزائري المعاصر:‏
ظل الصوت النسائي في الأدب الجزائري بعيداً عن الساحة، (وهذا ما يجعلنا نقول إن هذا الأدب وليد الستينات، وبصورة أدق من مواليد السبعينات، عدا الرواية التي ظلت غائبة حتى عام 1979 لتطل علينا رواية "من يوميات مدرسة حرة،.. وكان هناك مشروع رواية في أدب الراحلة (زليخة السعودي) إلا أن رحيلها حال دون ذلك)(84).‏
والملاحظ لدى الباحث أن الكتب التي تناولت الأدب الجزائري المعاصر لم تذكر اسم شاعرة أو أديبة سوى "زهور ونيسي"، وكان ذلك مروراً عابراً، وإن كانت هناك كتب تناولت الأدب الجزائري بالفرنسية، وتعرضت للأديبات الجزائريات اللواتي يكتبن بالفرنسية، وهن لسن أكثر ممن كتبن بالعربية(85).‏
ولعل سبب ندرة الكاتبات يتمثل في حواجز التقاليد والعادات، حيث (إن كثيراً من الأسماء ما تزال تنشر تحت أسماء مستعارة أو تشير إلى أسمائها برموز تترك الدارس لا يعتمد عليها لكون الأسماء الحقيقية مجهولة، حتى إن إحدى الأديبات التي قطعت مرحلة في الساحة الأدبية تجيب على سؤال في مقابلة أدبية عما إذا كان هناك ما يعترض دربها بقولها: "الكثير.. منها التقاليد، الجهل، الأسوار، الحجاب)، ولم تكن هذه الإجابة في الخمسينات وإنما في عام 1978.‏
وليست وحدها التي تؤكد على ذلك، وإنما عموماً هذه إجابة مشتركة، ولا بأس أن نقرأ ما تقوله الشابة (مريم يونس) في لقاء معها: (كانت دروبي في هذه المدينة الجميلة ـ جيجل ـ كلها أشواكاً وعقبات. كانت عذاباً واضطهاداً، خاصة عندما بدأت الكتابة. فقد غصت في دوامة من القيل والقال، لكنني لم أستسلم. قاومت في هدوء ومازلت إلى أن أنتصر لوجودي بين الأديبات الجزائريات إن شاء الله)(86).‏
ورغم أن المرأة في الجزائر لها مشاركة فعلية في الميادين الاجتماعي والسياسية والاقتصادية وليس هناك من ينكر دورها وحقوقها...) لكن هذا لا يبرر وجود فارق بين ما يشرع، وبين ما يطبق في الواقع، وبصورة أخرى هل يوجد هناك معادلة بين النظرية والتطبيق في هذا الميدان؟(87).‏
وإذا كان لنا من فرصة في التعريف ببعض نماذج الكتابات النسوية الأولى، فنذكر المجموعة القصصية "الرصيف النائم" لزهور ونيسي الصادر عام 1967 بتقديم الدكتورة سهير القلماوي.‏
(وكانت المجموعة القصصية الأولى لأديبة جزائرية تكتب باللغة العربية، أما قصص هذه المجموعة فإنها صور عن واقع المؤلفة، بل لِنَقُلْ إنها الجزائر أيام ثورتها التحررية، ولذا جاءت معبرة عما لاقاه الشعب الجزائري بصموده وكبريائه من أجل نصرة قضيته)(88).‏
والقصص في هذه المجموعة تنتمي إلى الواقعية الثورية، لأن السمة الشمولية ف ي فكر القصص تستمد من ثورة نوفمبر، بل تكاد أن تشكل ملحمة نضالية(89).‏
ولا يفوتنا أن ننبه إلى شيء وهو أن (زهور ونيسي) أشركت الشعب جميعاً في الجهاد المقدس من خلال قصتها، فعائلة الشيخ عمر في (زغرودة الملايين) نجد مشاركة أفراد الأسرة فيها الفتيات والنساء. وفي (لماذا لا تخاف أمي) ينطلق الطفل الذي يحمل الراية ويستشهد، وكذلك تحمل (خرفية) السلاح وتستشهد.. هذه الأمثلة تجعل كما قلت المجموعة ضمن الواقعية الثورية)(90).‏
وفي مجموعتها القصصية الثانية (على الشاطئ الآخر) يسجل حضور المرأة كمناضلة، مثلما هي حال (زهية) في قصة "المرأة التي تلد البنادق"، حيث إن (زهية) يطلب منها خطيبها أن تستقبل في مكان عملها في المستشفى واحدة تدعى (فاطمة) وتفعل ذلك مدعية أنها صديقتها جاءت قصد المعالجة، وتطلب (فاطمة) من (زهية) أن تحدثها على انفراد.. وتنتقل الاثنتان إلى غرفة أخرى.. فتجد أن حمل (فاطمة) إنما هو من نوع آخر. لقد كان السلاح تحت حزامها وهاهو يحتضن من قبل (زهية) أما نة ليستلمه خطيبها في آخر الدوام "مساء اليوم ذاته. ويأتي، لقد نجحت المهمة التي عبر أبطال القصة عن إيمانهم بالكفاح المسلح أيام الثورة.. ومن خلال الموقف الذي عرضته القصة)(91).‏
وفي قصة (وراء القضبان) تتجلى صورة المرأة كمسؤولة في مكتبة مدرسية، تتعامل مع التلميذات، ومنهن (نجية) بنت الشهيد الذي يكون ـ بالنسبة لمسؤولة المكتبة ـ حافزاً لاستدعاء صور نسوية أخرى لمجاهدات كن سجينات في سجن بربروس، ثم نقلن إلى فرنسا. كما تطفو على سطح الذاكرة صورة (الخالة وردية) التي قتلت جندياً فرنسياً، ومزقت الآخر بأظافرها، ويخيل إليهم أنها مجنونة فيتركونها لأقبية السجن.. إلا أنهم بعد فترة يرونها تحتضن الأسلحة في انتظار المجاهدين(92).‏
ويبرز نموذج آخر للمرأة في قصة (سمية) التي (تعاني مشكلة قد تكون خاصة، وقد تكون عامة، فهي تصور لنا كيف أن فاطمة تلد البنت الخامسة، فيعمّ البيت الحزن، لأن الوالد يريد ذكراً، وكذلك الأم.. لكنها ماذا تفعل. لقد كان اليوم الأول مشحوناً بالغض ب، ويأتي اليوم الثاني) ليكتشف الوالد وقد هدأ روعه أن ابنته التي سماها (سمية)، قد ماتت، فيعبر قائلاً:‏
(لقد ذهبت كما جاءت دون أن تحمل اسماً سوى أنها بنت)(93).‏
وفي قصة "الثوب الأبيض" للكاتبة نفسها، (تكون القصة قد تعرضت إلى مشكلة عدم وجود المعادلة الاجتماعية بين الزوجين، بل تريد أن تقول إن الرجل مازال هو المسيطر، حتى ولو كان ذلك على حساب الابنة، وهذا ما حدث لـ "زهية" في قصتنا هذه(94).‏
كما تبرز سطوة التقاليد المتشبثة بتلابيب المرأة في قصة (هؤلاء الناس)، حيث تأتي الكاتبة على موضوع مازال حتى الآن يلقى الاهتمام، ويجب أن ينظر إليه من وجهة ثانوية، على الرغم من أنه يعود إلى الأسرة وتقاليدها؛ فابن العم أولى بابنة عمه، حتى ولو كان كل منهما ينتمي إلى بيئة اجتماعية تختلف عن الأخرى(95).‏
وإذا كانت قصص (ونيسي) في المجموعة الأولى تنتمي إلى الواقعية الثورية النضالية، فإنها في المجموعة الثانية (على الشاطئ الآخر) قد غطت بعدين واضحين، البعد الوطني النضالي الذي تمثل في قصص الكفاح والثورة... والبعد الثاني البعد الاجتماعي الذي لم يكن يظهر في رحلتها الأولى، وذلك لأن النضال كان فوق كل شيء، وهاهو زمن الاستقلال.. والواقع وجهاً لوجه، وما عليها إلا أن تتناول قضايا واقعها، ولهذا فإنها تأتي إلى أقرب الموضوعات التي تمس هذا الواقع. وبصورة خاصة واقع المرأة الجزائرية التي تحررت حقاً من الاستعمار إلا أنها مازالت أسيرة تقاليد(96).‏
والكاتبة الثانية هي المرحومة (زليخة السعودي) التي لم تكن في قصها ناشئة ولم تكن مدعية أو مقلدة، ولا غرو في القول إنها ولدت قاصة، ورحلت قاصة دون أن يشير إلى قصصها أحد، إلا بكلمات قليلة. ولعل مجلة آمال قد انتبهت إليها، وأقرت منذ عددها الأول معترفة بموهبة (زليخة) القصصية وقدرتها على الإبداع(97).‏
ومع ندرة ك تاباتها لسبب أو لآخر فقد نُشرت لها أربع قصص قصيرة في مجلتي (آمال) ع1، ع6. و(الفجر) ع15/12/1962.‏
وتلك القصص هي (عازف الناي)، (من البطل)، (من وراء المنحنى)، (عرجونة)(98).‏
في قصة (من البطل) تبرز صورة (ربيعة) التي أجبرت على الزواج من (الأخضر) وشاء أن يتركها على أمل العودة، إنها تصارع نفسها قائلة: ما أفادني أنا المسكينة غير هذه المرارة التي أتجرعها من عجوزتي وجارتي وولديّ اليتيمين بالحياة)(99).‏
وتبرز لها صورة أخرى بعد أن امتدت الانتفاضة الثورية إلى قريتها، وبعد أن هجرها زوجها وماتت عجوزتها قررت: إنني أريد أن أؤدي واجبي نحو الثورة...)(100).‏
وتموت منتحرة نتيجة اعتداء الفرنسيين على شرفها.‏
وفي قصة (عرجونة) ابنة الشهيد تتجلى صورة المرأة ممثلة في شخصية (عيشة) الزوجة الجميلة، والأم الولود للإناث (المئناث) حتى أصبح يشار لها بـ (أم البنات)(101).‏
هذه الأم تترمل في زمن الاستعمار باستشهاد زوجها، ويودي الوباء ببناتها فلا تبقى لها سوى (عرجونة)، ومع الاستقلال وإطلالة فجر الحرية تدخل المدينة ولكنها لا تنحرف مثلما انحرفت (زينب) بل قبلت بأن (تصبح خادمة في مدرسة تمسح وتكنس)(102).‏
أما (عرجونة) فقد رفضت الضحك.. (وعيون عرجونة ترفض الضحك، وأقبلت ذات يوم لتهمس في حذر لمعلمتها "أمي ولدت" وقد سمت المولود بـ "الطاهر").‏
وفي هذا من الرمز ما يحمل معنى المفارقة؛ فإذا كان زوجها الأول اسمه (الطاهر) وقد مات شهيداً، فإن مولودها من (حركي خائن) لا يمكن أن يكون طاهراً أو أن يكون مؤهلاً لحمل هذا الاسم، وإذن فهو نوع من النقد الرمزي السياسي لحكّام فجر الاستقلال. ‏
ونأتي إلى شئ آخر في قصص (زليخة السعودي) وهو دور المرأة في الكفاح الثوري والضريبة التي دفعتها، (فقد استشهدت "ربيعة" في قصة (من البطل) وتحملت (عيشة) كل أنواع التعذيب من أجل أن تظل وفية لثورتها، وفي آخر المطاف نجد أن الذين قدمت لهم خيراً لم يقفوا إلى جانبها وقت الاستقلال)(103).‏
وإذا كانت قصص (زليخة) ـ على قلتها وندرتها ـ تنصبّ على نماذج نسوية، وتسند لها دور المشاركة في الثورة التحريرية، بصفتها مناضلة ومجاهدة، كما في قصة (من البطل)، أو ابنة شهيد، أو زوجة شهيد كما هي في قصة (عرجونة)، فقد أسبغت عليها صفات المرأة الوطنية، وأبرزها الوفاء للثورة، واحتمال صنوف الأذى والألم من أجل الحرية والاستقلال.‏
وما دمنا بصدد تتبع الكتابة النسوية وخصوصيتها، وصدورها عن هاجس كبير هو الحرية والتحرر، فإن للكاتبة رأياً في الحرية نابعاً من إيمانها بأن حرية الوطن من حرية الموا طن، على أن تكون تلك الحرية في إطار من الالتزام بالأصول والثوابت ومراعاة الانتماء.‏
تقول في مقال لها بعنوان (المرأة والحرية): "إن كثير من فتياتنا لا يفهمن من التطور والثورة سوى كلمة جوفاء يرددنها كلما سنحت الفرصة أوزارهن زائر فتقول أجل يجب أن تكون المرأة حرة أن تتقدم.. أن تكون مثل الأوربية تماماً.. أو أفضل منها.. ماذا ينقصنا نحن أن نتقدم مثلها.. إن أدمغة الرجال مازالت في حاجة إلى ضربات أخرى حتى تعترف بحقوقنا"(104).‏
هذه الصورة المأخوذة من واقع الكاتبة تستعرضها ثم ترد عنها مبدية خطأ المفاهيم وزيف الشعارات التي ترددها بعض النساء المأخوذات بالعصرنة، الواقعات تحت تأثير الاستلاب والانبهار بالآخر الغربي وحضارته الغربية. تقول في المقال نفسه": ماذا عساني أضع بين هذا السيل من البلاغة الفارغة التافهة سوى أن قول: إن فتاة لها مثل هذه الفكرة لا يمكن بأية حال أن تقوم بعمل مجد.. أو أن تمثل المرأة الجزائرية.. هذه الفتاة التي تفهم من الحرية.. ارتداء أح دث الأزياء .. والترطن بالفرنسية والرقص في الشوارع.. ومن لا يعجبه الأمر أمامه الجدران.. هذه الفتاة السطحية إنما تعوق سير المرأة الفاضلة، وتؤدي بالآباء أن يفكروا بكل حرية وبكل انطلاق ولو في حدود معقولة"(105).‏
وتستطرد مبرزة قبح الصورة المستلبة للمرأة التي تريد بعض الجزائريات أن يكنّها: "هذه الفتاة التي تنبذ كل ما يربطها إلى واقعيتها وقوميتها ودينها، وتندفع في جنون إلى قشور الحضارة تزين بها نفسها الزائفة، فكيف تكون الشخصية بمثل هذه الفتاة الممسوخة الفكر والرأي.. فهي ترى الحياة بعين أوروبية متحررة تخطت كل العقبات.. وتجاوزت كل الحدود، لا يهمها من الوجود سوى مظهر عابر.."(106).‏
وهي لا تؤمن بمثل هذه الصورة للمرأة، ولا تتعاطف مع هذا النموذج؛ "حقاً إنها لا تمثلنا، لكنها تسيء إلينا، تلطخ كل الثياب النظيفة ببقع سوداء تجعل حرية الجزائرية المخلصة تضيع عبثاً في تخبطها هي.."(107).‏
وتؤمن بصورة أخرى للمرأة، لكن مغايرة تماماً: "أومن بالمرأة تنطلق في طريقها الأفضل حاملة روحها وشخصيتها، تناضل لأجل وجودها بكل قواها، تفهم من كل الأشياء جوهرها، محافظة على قيم ثورتها الغنية"(108).‏
وهنا أضع خطّأً تحت هذا النموذج ومواصفاته لأتساءل، مع القارئ: إلى أيّ مدىً سيتحقق أو لا يتحقق هذا النموذج في الأدب النسوي الجزائري، وبالتالي في الواقع؟ أم نقول إن (زليخة) نمط من الكتّاب الواقعين تحت سطوة الواقع وثقافة الذكر؟ أم هل هي تنطق بلسانه؟ أم هي تجسّد قناعتها؟ أم هو فكر مرحلة معينة خاضعة لأيديولوجيا الثورة والبناء والتشييد؟ هذه الأيديولوجيا التي ترسم مصائر الأفراد كما تحدد مصائر الجماعات؛ وتبعاً لذلك تحدد ما يجب وما لا يجب؛ "إن للحرية حدوداً وهي لا تمنح إلا لمن يستحقها.. لمن ينفع بها الآخرين ويسير في الطريق المرسوم لكل الشرفاء العاملين أما أولئك الذين يدنّسون بها وجه البشرية فجزاؤهم أن يقيدوا بقيود ثقيلة، هذا بالنسبة للإنسان كصورة عامة، أما بالنسبة للمرأة فعندما ينتشر الوعي الوطني في كل الأدمغة وتنتشر الأضواء في كل الدروب المعتمة وتقود الأرواح الطاهرة الحية مصير النساء في الوطن الحبيب فستجد الطافيات فوق العباب أنفسهن وحدهن في المجتمع لا قيمة ولا صورة لهن، فمن لا يحترم نفسه لا يجد من يحترمه ومن لا شخصية له.. لا ينتظر أن يكوّن له الآخرون شخصية"(109).‏
هل نقول إن النقد النسوي أخلاقي؟ ربّما.. غير أن الأكيد هو أن الكاتبة واقعة تحت سطوة الموروث الثقافي والروحي والأيديولوجي، وتعبر بلسان حال المجموع، ربما لقناعتها بذلك أو لكونها لا تستطيع أن تقول غير ما قالت، بحكم دورها المرسوم لها ككاتبة تناضل بالقلم لنصرة أيديولوجيا السلطة الحاكمة، كما يفرض ذلك الالتزام بقضايا الوطن والأمة، حتى لقد تغدو الكتابة سياسية شاء الكاتب ذلك أم أبى، بدليل حضور الحسّ السياسي في الكتابة في السطور وما بين السطور. تقول الكاتبة: "وعلى ضوء الأهداف الكبيرة للشعب العربي في الجزائر.. هدف ترقية المرأة على أسس كريمة يقرّها الدين والشرف والقومية"(110).‏
وإذا كانت النسويات ا لغربيات قد دعون المرأة الأوربية للثورة على الواقع الذكوري، بما في ذلك الرجل الذي يشكّل الهاجس الرئيس في هذا الواقع، فإن (زليخة السعودي) تدعو إلى ممارسة نضال آخر ـ لا أقول هو تكريس للواقع، ولكنه ما يسمح به واقع الحال، وما تتطلبه أيديولوجيا المرحلة التي تجعل من الكاتب جنديّاً يقف في صفّ الثورة، وإلا سحقته في مسيرتها كما يسحق المارقون؛ تقول: "أيتها الأخوات، وحّدن الجهود لإعطاء المثل الأعلى في الخلق الكريم والنضال الدائم المضيء.. فعلى هذه الأرض الطيبة أم الأبطال ومنجبة البطلات والنضال المقدس الصامد.. لن يبقى على وجهها سوى من يمثل ويشرّفها، وتأبى تضحيات آلاف النساء والفتيات على القمم البيضاء أن نبقى مجرد فقاقيع طافية فوق العباب، بل لا بد من أن نصل إلى المكانة اللائقة بنا كجزائريات.."(111).‏
فهي إذن لا تثوّر ـ كما رأينا النساء الغربيات (والعربيات) ـ يفعلن، ولكن تفتح قوساً على مصير ما يزال رهناً بالغيب، تستشرف أفقاً يبقى غاية قد تتحقق أو لا تتحقق.‏
والنموذج الثالث من أوائل الكاتبات الجزائريات هي (جميلة زنير)، الأديبة التي بدأت بالشعر وانتهت بالقصة، لأن الشعر في اعتقادها (لا يستطيع أن يرصد كل خلجاتي، ولا يستوعب ما بداخلي)، فاتجهت إلى القصة لأنها منحتني حرية في التنفس والتعبير أكبر، وفيها أستطيع أن أفجّر كل أحاسيسي. وإن كانت المعاناة واحدة، فالشعر كثيراً ما يكون موقفاً انفرادياً ذاتياً، والقصة هي عالم الآخرين(112).‏
وإذا كانت زنير عانت في عالم الشعر (فإنها في القصة أكثر واقعية، بل أكثر تعبيراً عما تعانيه، وهي التي خرجت من عالم القهر، كما جاء في تصريح لها؛ (نشأت في بيئة خانقة محاصرة، كل شيء فيها يبعث على الموت ويخلقه، ومع ذلك حفرت لنفسي درباً سرت فيه بمفردي، رغم الأشواك والحصار والزيف، وانطلقت أعدو باتجاه النور يحدوني الأمل في أن أعانقه ولا زلت أعدو مستنيرة به في رحلتي الأدبية المتواضعة))(113).‏
أما قصصها فتتمثل في مرحلتين؛ الأولى: وتراوح فيها القاصة ما بين الرومانسية وبين الوا قعية، والمرحلة الثانية التي تعيشها إنما هي مرحلة ما بين الواقعية، والواقعية الاشتراكية(114).‏
وفي قصص المرحلة الأولى تتجلى صورة المرأة لديها في قصة (لن يطلع القمر) لتصور لنا بعض الجوانب السلبية؛ (فشخصية القصة "فاطمة" أحبت ابن عمها، وأحبها، ثم هاجر إلى فرنسا وتزوج هناك، في حين بقيت هي بانتظاره، ولم تكتشف خيانته إلا بعد مدة طويل، وذلك من رسالة أرسل بها إلى أهله ينبئهم بنيّته في القدوم إليهم في صيف هذا العام(115).‏
وبذلك تكون خاتمة القصة مأساوية مثلما هي حال المرأة، حيث (لم تكتف القاصة في الهرب نهاية مأساوية لشخصيتها.. بل تؤكد عدم تحديد مكان الهروب؛ حين يلفّ الكون في غلالته الرمادية تلك، فهو وحده الذي يدلنا عن الجهة التي اتخذتها حينما غادرت القرية ليلا)(116).‏
أما القصة الثانية في هذه المرحلة فإنها (حب في القرية الوديعة) المنشورة عام 1977، حيث (تأتي الك اتبة على شخصيتها، وهي التلميذة النشيطة التي تغيرت فجأة بسبب ابن عمها الذي حملت له يوماً رسالة إلى آنستها التي اعتذرت عما جاء في محتواها، وهو رفضها للخطوبة التي يريد أن يتقدم بها من الآنسة)(117).‏
غير أن علاقة الحب هذه تنتهي بمأساة حيث يبعد حبيبها عنها بأمر من أهله ويزوّج من غيرها بينما تقدم هي على الانتحار. ومن هذه القصة يتبين أن القاصة كانت (تهدف إلى كشف ما في واقعها من (أمراض اجتماعية) تكون المرأة ضحيتها الأولى(118).‏
ومن الملاحظ أن الشخصيات التي تأخذ دوراً، هي أنثوية، أو هذا تأكيد من جانب القاصة على اهتمامها بجنسها لا من جانب التحيز، وإنما بقصد الوقوف إلى جانب المرأة في قضاياها العادلة(119).‏
أما قصصها في المرحلة الثانية، فمن بينها قصة (ثقوب في ذاكرة الزمن)، شخصيتها المحورية هي (خولة) وأختها (زهور)، وزمنها هو زمن الثورة حيث يمسّهما من عذاب الثورة ما مسّ الناس وقتها. وتتزوج (زهور) بأحد الثوار، على حين تبقى (خولة) من دون زواج إلى ما بعد الاستقلال بعد أن ابتليت في شرفها عنوة، ولا تتزوج ـ رغم كثرة العروض والمساومات ـ إلا في نهاية القصة، بعد أن وجدت من تطمئن إليه(120).‏
ولا تخرج قصة (في دائرة الحلم والعواصف) عن دائرة القصة السابقة (وبصورة خاصة في الصوت النسائي)، فـ (نعيمة) الشخصية الرئيسية تتحدى الواقع، ونراها منذ البدء ثائرة على الفقرة، ثم على البيروقراطية، إذ إنها لم تستطع تتمة أوراق الملف إلا بعد شفاعة من قريش، ومع ذلك رفض الملف من قبل الدائرة التي تحتاج إلى موظفات، وذلك بحجة أن المدة انتهت لتقديم الطلبات، وليس القصد من ذلك، وإنما لغاية في نفس رئيس الدائرة(121).‏
غير أن ما يؤخذ على القصة هو موقف انهزام الشخصية الأنثوية في النهاية، هذه النهاية التي لم تكن متوقعة، وبالأحرى لم تتناسب والخط النضالي لنعيمة التي وجدناها ثائرة منذ البداية، ترفض أنصاف الحلول(122).‏
ونخلص في الآخر بشأن الصورة الأنثوية في قصص زنير إلى (أن القاصة أكدت في أغلب قصصها على النهايات المأسوية لبطلاتها أو الشخصية المحورية ـ وذلك حسب اعتقادي بتفجير الواقع الذي تعايشه المرأة، أو لتثير الالتفات إلى المواقع التي يجب أن تأخذ المرأة مكانها فيها، أو لتبيّن للقارئ أن المرأة حتى الآن لم تكن في المستوى الذي يجب أن تأخذه... أما المسببات فإنها قد تكون من الرجل، وهذا بارز في قصصها، وقد يكون من المجتمع أو من المرأة ذاتها... إلا أن المحور الذي ركزت عليه أن مأساوية الشخصية المحورية لم يكن إلا بسبب الرجل(123).‏
وإذن فالرجل دائماً هو السبب في مآسي المرأة أو على الأقل هذا ما تكتبه الروائيات، فهل هي فكرة مسبقة وسوء نية مبيّته ضد الرجل؟ أم هو الواقع؟ أم هو حسد القضيب؟ أم هو المنافسة الرغبة في المساواة والتحرر من الدونية؟‏
لا يمكن أن نعزو أو نردَّ الأمر لسبب معين دون غيره وسواه، ولكن نع زوه لجميع الأسباب متداخلة ومتشابكة ومتفاوتة أيضاً؛ فقضية المرأة الجزائرية خاصة والعربية بل والعالمية واحدة أساسها الحرية بأوسع معانيها وتعدد أبوابها ومنافذه.‏
ونكتفي بهذه النماذج الثلاثة كعلامة على الوجود المبكّر لمثل هذا النوع من الكتابة في الأدب الجزائري المعاصر، شأن بقية آداب الأمم، مشيرين في الوقت ذاته إلى أن ثمة كاتبات أخريات لم نذكرهن، لاسيما أولئك اللواتي ينتمين إلى جيل الأدباء الشباب ممن جاؤوا بعد موجة الرواد والرائدات أو من يمكن تسميتهم بالشيوخ في مضمار القصة والرواية الجزائريتين.‏
ولا نختم هذا الفصل ـ المدخل قبل أن نبيّن التشابه الحاصل بين الكتابة النسوية العربية والغربية في مسألة تصنيف الكتابة ذاتها، فهي من حيث المبدأ إدراك ووعي بالتاريخ بوصفه قابلاً للتحليل وبأن فيه كثيراً من الفجوات المظلمة، المغفلة بين حلقاته، (وإذا كان أدب المرأة يسهم في إضاءة هذه الفجوات، وإذا كانت الكاتبات يطمحن إلى الإسهام في تشكيل المعرفة، فإنهن يدركن أنه برغم الفروض النظرية التي تعد الأدب والثقافة أبنية فكرية مرتبطة بالسياق التاريخي والاجتماعي، إلا أن العمل على تغيير هذه الأبنية لا يقتضي وعياً بأبعاد السياق التاريخي والاجتماعي فحسب وإنما يتضمن كذلك نوعاً من الصراع ضد أنفسهن).‏
ومن رغبة الكاتبات في تجاوز واجتياز الفجوة بين الفكر النظري والممارسة الفعلية، باستنطاق المسكوت عنه واستخراج المكبوت في وعيهن ولا وعيهن، (يتحدّد الصراع داخل ذات الكاتبة بين الرفض الجزئي أحياناً والاحتجاج الكلي في أحيان أخرى، وموقف ثالث يتّسم بقدر من الموضوعية والعقلانية والنضج الفكري والفني في آن واحد).‏
وهو ما يقود إلى تصنيف الكتابات النسوية العربية ـ كما الغربية ـ ضمن ثلاثة أطر، لكل منها سماته وخصائصه.‏
فالطور الأول: تندرج ضمنه كتابات تتصف بتقليد الطرق والمقاييس ونظام القيم السائدة في الإنتاج الأدبي.‏
والطور الثاني: متداخل مع الأول، مندمج به في كثير من السمات، وتلتزم كتاباته أحيانا بالرؤية التقليدية للأدوار الاجتماعية، وتتضمن في بعض جوانبها نسخة من العالم الذي تقهر فيه النساء عن طريق أبنية فكرية واجتماعية قائمة أو نسخة من العالم الذي تكون فيه الأساطير المصنوعة عن المرأة، المتعارضة مع إنسانيتها، أكثر قوة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يتسبب عنها القهر بصوره المادية الملموسة، أو صوره المعنوية الضاغطة.‏
والأدب النسوي الجزئري ـ في مرحلتيه الأولى والثانية ـ لم يخرج عن هذين الإطارين في كونه أدباً ملتزماً لا يختلف عن الأدب الذكوري إلا في كونه ـ ربما ـ أكثر تركيزاً على عنصر المرأة، وأحرص على تجسيد معاناتها الخاصة كأنثى، والعامة كإنسانة وكمواطنة تسعى لتوكيد الهوية ورفع الحيف والجور عنها.‏
أما الإطار الثالث: فيتمثل في (وجود كتابات نسائية تخطت مرحلة الاحتجاج المباشر ووصلت إلى محاولة جادة لاكتشاف الذات وتحرير الداخل من ردود الأفعال